"لا تكذب"... كلنا تعرض لهذا التأنيب في طفولته وربما بعد ذلك أيضاً. وقد تكون وصية "لا تكذب" المشترك الأول في كل الثقافات القديمة والحديثة وكل الأديان السماوية والطبيعية. فالكذب عمل غير أخلاقي باتفاق الجميع، ولكن مع ذلك لم يتوقف البشر عن الكذب يوماً واحداً، سواء في حياتهم الاجتماعية الخاصة أو كجماعات وقوميات.
وجوه الكذب
قد يكون الكذب مباشراً بمعنى إخفاء حقيقة عن قصد، أو ترويج معلومة غير صحيحة على أنها صحيحة. وقد يأخذ تعريفات مختلفة تجعل فعل إخفاء الحقيقة أقل سطوة من قبيل الإشاعة أو ما يسمى "الكذبة البيضاء" أو بدعوى المصلحة العامة، وهو طريقة للخداع والتحايل والفبركة والتلفيق وكذلك التزييف والتزوير، ويدخل في الكذب أيضاً الادعاء والمغالاة والمراوغة والمواربة.
النميمة أو "القيل والقال" تعني نقل الكلام بغرض الوقيعة بين الناس. أما الإشاعة فهي خبر أو قصة متداولة حقيقتها غير مؤكدة أو مشكوك فيها. وبينما تنطوي الإشاعة على هذه الخواص فإنها تتعداها إلى ترويج خبر مختلق لا أساس له في الواقع، أو تعمد إلى المبالغة أو التهويل أو التشويه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هناك الكذب الفطري الذي يكمن في غريزة كل إنسان، ويظهر بشكل واضح عند الأطفال الذين يخفون الحقيقة، من دون أن يعرفوا أنهم يقومون بفعل سيئ، لحماية أنفسهم من العقاب أو للوشاية بأقرانهم. وبينما يكبر الطفل يبدأ باستخدام ما يسمى "الذكاء المكيافيللي" ليتمكن من المناورة في إطار المجموعة كالعائلة أو المدرسة، وقد يتطور هذا السلوك ليأخذ طابعاً انتهازياً ويتحول إلى شكل من أشكال الانحراف.
هذا الكذب الطفولي موجود بنسب مختلفة في كل كائن بشري، ونستخدمه جميعاً في حياتنا اليومية، وغالباً ما نجد تبريراً له يجعله أقل فداحة في ضمائرنا. فالكذب هو بمعظم تجلياته وألوانه جزء من نسيج السلوك الإنساني، والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه اعتبر أنه شرط من شروط ديمومة الحياة، وهو مضفور في مناحينا الإنسانية والمعرفية.
جاء في دراسة نشرت قبل سنوات في مجلة "جورنال أوف بيرسونالتي أند سوشيال سايكولوجي" أن الأشخاص المعتادين على الكذب، خلافاً للأشخاص الذين يكذبون لظرف عابر أو مكرهين، يميلون إلى أن يكونوا متلاعبين مراوغين ومكيافيلليين، علاوة على هوسهم المفرط بالانطباع الذي يتركونه عن أنفسهم لدى الآخرين. ومع ذلك لا توجد صورة نمطية واحدة للكذاب.
سيكولوجيته ودوافعه
يجمع علماء النفس على أن الكذب ظاهرة شائعة جداً وتفسيرها معقد ولا يمكن أن نمضي يوماً من دون أن نمارس الخداع بصورة من الصور حتى ولو بكذبة بريئة أو ذات نوايا حسنة أو مقصد نبيل أو على الأقل غير مؤذية.
وجد علماء النفس أن معظم الناس يكذبون بشكل متكرر أكثر بكثير مما هم على استعداد للاعتراف به حتى لأنفسهم. الرقم الأكثر شيوعاً لحدوث الكذب يأتي من دراسة أجراها عالم النفس الأميركي روبرت س. فيلدمان، وتشير إلى أن الناس يكذبون في المتوسط مرتين إلى ثلاث مرات لكل 10 دقائق من وقت المحادثة، أما أهم دوافع الكذب، بحسب الدراسة، فكان الحفاظ على احترام الذات والرغبة في تجنب الصراع، وتأتي بعد ذلك مجموعة من الأسباب الأخرى الأقل أهمية.
عالم النفس بول إيكمان، صاحب كتاب "قول الأكاذيب"، يحدد سبعة حوافز للكذب، أولها تجنب العقاب، ثم للحصول على مكافأة، ثم لحماية الآخرين، أو أن نضطر إلى الكذب للإفلات من موقف اجتماعي، ولإرضاء غرورنا، وهناك الكذب السياسي للسيطرة على المعلومات والتحكم بها، أو لتجهيل حقيقة وإخفائها.
لكن الكذب المرضي "ميثومانيا" أو الكذب القهري يطلق المصاب به الكذبة ولا تكون وليدة موقف آني أو ضغط اجتماعي ما بقدر ما تنبثق من باعث داخلي للشخص، وغالباً ما يمكن رد هذا الباعث إلى اضطرابات سلوكية ناجمة عن تعرض الشخص في حقبة ما من حياته للابتزاز أو للاضطهاد أو لإساءة المعاملة على نحو دفعه للكذب بصورة متكررة ومعتادة.
في البروباغندا والضرورات
في جميع الثقافات كان الكذب من النواهي الأساسية، وطالما عد أخاً للخيانة وشر القول، وهو من المحرمات في جميع الأديان وأساس لكل شر ومفسدة لحياة الناس وضمائرهم.
فالعقد الاجتماعي في أي نوع من أنواع الأنظمة السياسية لا يمكنه الصمود في حال تفشي الكذب بين أفراد الجماعة، لذا ازدرته الحضارات المختلفة وعاقبت عليه نظم دينية ومدنية، وأهين الكذاب اجتماعياً وعومل في مختلف المجتمعات كالمجرم.
لكن إن كان ممكناً عزل الكاذب الفرد واكتشاف كذبه، فإن ما تشهده المجتمعات الإنسانية اليوم مع ظهور شبكة الإنترنت والضخ الهائل للمعلومات عبرها يعد أصعب ما يواجه الحقيقة، إذ تمكنت الشبكة من جعل التضليل ذا قدرة وتأثير يفوقان ما للمعلومات الحقيقية، بل وبات التضليل الإعلامي عبر بث كم هائل من المعلومات غير المستندة إلى أسس علمية أو إثباتات حقيقية جزءاً من الحروب بين دول وأنظمة وهيئات الاستخبارات، والرابح هو الفريق القادر على إقناع أكبر عدد من المتابعين بالمعلومات التي يبثها بصرف النظر عن مدى صحتها.
نجحت معظم عمليات التضليل عبر الإنترنت في إيجاد مؤيدين لها مهما كانت غريبة وعصية على التصديق، بل وتضخمت بعض المعلومات المضللة لتنفلت من سلطة مطلقيها حتى صار لها مؤيدون ومتابعون. وهذا النوع من المعلومات هو الذي يؤسس لمجموعات ما يسمى "نظرية المؤامرة"، مثل تلك المعنية بالكائنات الفضائية، أو بالعصبة الصغيرة التي تدير العالم من خلف الكواليس، أو بالدولة العميقة التي تخفي الحقيقة في أمور كثيرة عن مواطنيها.
وخلال جائحة كورونا نجحت جماعات في إقناع عدد كبير من مواطني العالم بأن الفيروس مفتعل، وأن التطعيم وسيلة لزرع شيفرات في أجساد جميع البشر. وارتفع عدد هذه المجموعات والحركات بشكل كبير وتنوعت قضاياها الغريبة في مروحة واسعة من القضايا التي تكاد تصبح واقعية ومنطقية لشدة ما تستقطب من متابعين.
فلسفة وتاريخ وأكاذيب
أفلاطون اهتم بطبيعة الكذب وما يميزه عن الأشكال الأخرى للسلوك المخادع، إضافة إلى الأسئلة المتعلقة بأخلاقية أو عدم أخلاقية قول الأكاذيب، إذ تسمح بعض الثقافات بقليل من الكذب إذا ما كان لحقن الدماء ولفائدة عدد كبير من الناس.
الدين الإسلامي مثلاً استثنى حالات اضطرارية أباح فيها الكذب من أجل غايات سامية. في هذه الحالات لا يستخدم الكذب لتحقيق أهداف أنانية فردية بل لتحقيق خدمة للمجتمع من دون إيقاع ضرر بالآخرين.
أما علماء النفس فطالما اهتموا بقدرة الأطفال على تنمية الكذب، ويعتبر كثير منهم أن اكتشاف سبب تنميتنا لهذه القدرة من الطفولة يمكن أن يسهم في الكشف عن كثير من أسرار الكذب لدى البشر كأفراد وجماعات.
كما اهتم علم الاجتماع بدوافعنا إلى الكذب وأسبابه ونتائجه في الحياة اليومية، أما التقنية فقد اهتمت باختراع آلات يمكنها اكتشاف الأكاذيب والكذابين.
القديس أوغسطين (354-430 م) اشترط في الأكاذيب أن يعتقد المتحدث بأنها خاطئة وتهدف إلى جعل الشخص الموجهة إليه يقبلها على أنها صحيحة. ويعتقد فلاسفة آخرون أن الكذب لا يقتصر على الكلام، لأننا نكذب عندما ننخرط في أي اتصال لفظي أو غير لفظي يهدف إلى إحداث اعتقاد خاطئ، ويدخل التضليل من خلال الامتناع عن تأكيد شيء ما في هذا الإطار مثل نزع خاتم الزواج لإعطاء الانطباع بأن المرء غير متزوج.
أما الفيلسوف الفرنسي إيمانويل كانط (1724-1804 م) فيرى أنه لا توجد ظروف يمكن تصورها يكون فيها الكذب مقبولاً أخلاقياً. وجادل بأن الأخلاق متجذرة في قدرتنا على اتخاذ خيارات حرة وعقلانية، والكذب اعتداء على الأخلاق لأنه يهدف إلى تقويض هذه القدرة.