في ذكرى شفرة مورس... حين تحولت النقاط إلى لغة غيّرت العالم

منذ 8 ساعة 11

لم يكن صامويل فينلي بريس مورس، الرسام الأميركي، يتخيل أن حزنه الشخصي سيكون الشرارة التي ستغير مستقبل الاتصالات البشرية. في عام 1825، تلقى مورس خبر وفاة زوجته متأخرًا بسبب بطء وسائل الاتصال آنذاك، وهي المأساة التي أشعلت داخله رغبة لا تلين في إيجاد وسيلة أسرع وأكثر فاعلية لنقل الأخبار والمعلومات.

خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وبدعم من علماء مثل ألفريد فيل وجوزيف هنري، بدأ مورس تجاربه على الدوائر الكهرومغناطيسية، وعلى الرغم من افتقاره إلى خلفية علمية متخصصة، فقد نجح مع فريقه في تطوير أول تلغراف كهربائي مع شفرة اتصالات تعتمد على النقاط والشرطات.

أول رسالة... بداية لعصر جديد

في عام 1844، كتب مورس فصلًا جديدًا في تاريخ البشرية بإرسال أول رسالة عبر التلغراف من واشنطن إلى بالتيمور، حاملة العبارة الشهيرة: "ما الذي صنعه الله". كان هذا الحدث إيذانًا ببداية عصر الاتصالات الفورية، الذي سرعان ما غيّر وجه العالم، مختصرًا المسافات الزمنية والجغرافية، وفأصبح تبادل المعلومات يتم خلال دقائق بدلًا من أيام أو أسابيع.

لم تمضِ عقود قليلة حتى غطت خطوط التلغراف القارات والمحيطات، موصلة الملوك والرؤساء والصحفيين والجنرالات بشبكة عالمية غير مسبوقة.

في عالم الصحافة، غيّرت شفرة مورس طريقة نقل الأخبار، حيث بات بالإمكان الإبلاغ عن الأحداث لحظة وقوعها تقريبًا. أما في ساحات القتال، فقد أنقذت حياة الآلاف عبر إيصال الأوامر العسكرية بسرعة مذهلة. اقتصادياً، مكنت من إجراء الصفقات التجارية بين المدن والدول في الزمن الحقيقي تقريبًا.

ومع دخول القرن العشرين، لم يتراجع تأثير شفرة مورس، بل توسع ليشمل الإذاعات اللاسلكية والاتصالات البحرية والجوية، حيث أصبحت لغة النجاة للسفن والطائرات في أوقات الخطر، خصوصًا مع اعتماد نداء الاستغاثة العالمي الشهير SOS، المبني بالكامل على هذه الشفرة البسيطة.

كيف تعمل شفرة مورس؟

تعتمد شفرة مورس على تحويل الحروف والأرقام وعلامات الترقيم إلى سلسلة من الإشارات القصيرة والطويلة: النقاط (•) والشرطات (–).

كل حرف يُمثَّل بتسلسل معين من هذه الإشارات، فمثلًا الحرف "E" يتم تمثيله بنقطة واحدة فقط، بينما الحرف "T" بشرطة واحدة. وهكذا، عبر تتابع من النقاط والشرطات، يمكن تكوين كلمات وجمل كاملة.

يمكن إرسال هذه الإشارات عبر الصوت (نبضات)، أو الضوء (وميض قصير وطويل)، أو حتى بالطرق على الأجسام الصلبة. وتسمح بساطة هذا النظام بإرسال رسائل مفهومة عبر ظروف قاسية للغاية: في الحروب، في أعماق البحار، أو عبر موجات الراديو.

هذه القدرة الفريدة على تبسيط اللغة إلى إشارات أساسية جعلت شفرة مورس لغة عالمية حقيقية، يفهمها الجميع بغض النظر عن الاختلافات اللغوية أو الثقافية.

إرث خالد يتجاوز التكنولوجيا

خلال الحربين العالميتين، شكّل مشغلو شفرة مورس رصيدا استراتيجيا لا يقدر بثمن. وقد جسدت السينما هذه الأهمية في أفلام مثل "مدمرات السدود" و"الغواصة يو"، التي أبرزت دور هذه الوسيلة في نقل الأوامر وسط معارك بحرية وجوية طاحنة.

حتى في ثقافة البوب، وجدت الشفرة طريقها إلى الموسيقى وألعاب الفيديو، وأصبحت رمزًا للإبداع والابتكار، كما في لحن فرقة "راش" بأغنية "YYZ" أو نغمات رسائل هواتف نوكيا القديمة.

رغم أن الوسائل الرقمية الحديثة أطاحت بالتلغراف التقليدي، إلا أن شفرة مورس لم تختفِ. فهي لا تزال حاضرة بقوة بين هواة الراديو ومحترفي الاتصالات الطارئة، نظراً لقدرتها الفريدة على نقل الرسائل حتى في أحلك الظروف، بأبسط الإمكانيات.

تعد شفرة مورس واحدة من أولى "لغات" التكنولوجيا التي ربطت البشر بلغة ثنائية بدائية استبقت مفهوم البرمجة الرقمية. فهي شاهد حي على كيف يمكن للاختراعات البسيطة المدفوعة بالعاطفة الإنسانية أن تُحدث ثورات عميقة في مسار الحضارة.

اليوم، وبينما نحتفل بذكرى ولادة شفرة مورس، نحيي قصة رجل لم يسمح للحزن أن يكسره، بل حول ألمه إلى ابتكار ألهم العالم. من النقاط والشرطات الأولى التي عبرت أسلاك التلغراف، إلى إشارات الراديو الخافتة التي أنقذت الأرواح في أعالي البحار، تظل شفرة مورس تذكرنا أن الكلمات يمكنها أن تقطع أعظم المسافات... ببساطة وبقوة.