لطالما احتل ملف التحديات المناخية مساحة واسعة من أجندة زعماء العالم، بعضهم ينظر إليها من أهداف سياسية صرفة، وآخرون (وهم قلة) يتعاملون مع هذا الملف من واجب المسؤولية الأخلاقية. قد لا تكون هذه المساحة اليوم فرصة لاستعراض وجهتي النظر السابقتين، فيكفي لأي مراقب أن يتابعَ تصريحاتِ الطرف الأول ومبادرات الطرف الثاني، ليتلمسَ الواقعَ الحالي للمشكلة وأبعادها ونوايا كل طرف في التعامل معها.
يخطئ من يعتقد أن مسؤولية مواجهة التحديات المناخية تقع على عاتق الدول النفطية دون غيرها، فكما أشرت في مقالة سابقة في 15 أغسطس (آب) الماضي بعنوان «فزاعة النفط»، فإن الغرب يفرض ضرائب على النفط الخليجي بحجة حماية البيئة، بينما يدعم الفحمَ الذي يعد أكبرَ الملوثات من بين مصادر الطاقة الموجودة اليوم، في تناقض صارخ وغير مفهوم ولا يتناسب والحد الأدنى من المنطق البشري.
ورغم كل ذلك، فإن السعودية أخذت على عاتقها تبني العديد من المبادرات خلال السنوات القليلة الماضية، منها ما هو وطني ومنها ما هو إقليمي ومنها ما هو عالمي، وما مبادرة الشرق الأوسط الأخضر ومبادرة نهج الاقتصاد الدائري للكربون التي تبنتها مجموعة العشرين على مستوى القمة، إلا جزء بسيط من المبادرات التي قدمتها الرياض إلى المنطقة والعالم، بهدف استدامة الطاقة وتقليل الانبعاثات الكربونية.
والسؤال الذي يفرض نفسَه هنا، هل مواجهة التحديات المناخية هي مسؤولية فردية أم مسؤولية جماعية؟ ما هي المبادرات المطلوبة من جميع دول العالم لإنقاذ كوكب الأرض؟ هل حماية الكوكب حكرٌ على الدول ذات مصادر الطاقة الغنية دون غيرها؟ هل من المنطق التركيز على مصادر طاقة محددة مثل (البترول) بينما يتم تجاهل مصادر أخرى مثل (الفحم)؟
نجاح أي جهد بشري، أياً كان هذا الجهد، ينطلق من «التشاركية الجماعية» في التصدي للأزمات، ومن هذا المنطلق أخذت السعودية على عاتقها قيادة دول المنطقة للإسهام في الوصول للأهداف المناخية العالمية، وهو النهجُ الذي اتبعته الرياض برعاية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، من خلال إقامة النسخة الثانية من قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر في جمهورية مصر، بالتزامن مع مؤتمر الأطراف في اتفاقية التغيير المناخي (كوب 27) برئاسة سعودية مصرية مشتركة، وهو ما أرسل رسالة واضحة على أهمية العمل الجماعي في مواجهة التحديات المناخية.
ولعلي هنا، أستعرض بشكل سريع بعض الأرقام والمستهدفات التي أوردها الأمير محمد بن سلمان، في كلمته بافتتاح قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، للتدليل على جدية هذه المبادرة الطموحة التي تتطلب استمرار التعاون الإقليمي لتنفيذ التزامات دول المنطقة بوتيرة أسرع؛ ومنها خفض الانبعاثات الكربونية وإزالتها بأكثر من «670» مليون طن مكافئ ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يمثل «10 في المائة» من الإسهامات العالمية، وزراعة «50» مليار شجرة، وزيادة المساحات المغطاة بالأشجار إلى «12» ضعفاً، واستصلاح «200» مليون هكتار من الأراضي المتدهورة لتخفيض «2.5 في المائة» من الانبعاثات العالمية. هذا على مستوى مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، أما على الصعيد الوطني فقد أطلقت السعودية مبادرة السعودية الخضراء لخفض الانبعاثات الكربونية لأكثر من «278» مليون طن مكافئ ثاني أكيد الكربون بحلول 2030 من خلال نهج الاقتصاد الدائري للكربون، والعديد من المبادرات الأخرى كمنصة التعاون الدولية لتطبيق هذا النهج وصندوق استثماري إقليمي مخصص لتمويل حلول تقنيات الاقتصاد الدائري للكربون ومبادرة حلول الوقود النظيف من أجل توفير الغذاء، فيما تسعى الرياض لإنتاج «50 في المائة» من الكهرباء باستخدام مصادر الطاقة المتجددة بحلول 2030 والوصول إلى إزالة «44» مليوناً من الانبعاثات الكربونية ما يعادل «15 في المائة» من إسهاماتها الوطنية بحلول 2035.
ما لفت نظري بشكل أكثر من غيره، خلال قمة مبادرة الشرق الأوسط في نسختها الثانية، إعلان الأمير محمد بن سلمان استهداف صندوق الاستثمارات العامة للوصول إلى الحياد الصفري لانبعاثات غاز الاحتباس الحراري بحلول 2050، من خلال نهج الاقتصاد الدائري للكربون، ليكون من أوائل صناديق الثروة السيادية في العالم والأول في منطقة الشرق الأوسط وصولاً إلى الحياد الصفري، وهو ما سيضع صناديق الثروة في العالم أمام تحد للتخلص من فكرها الاستثماري القديم، والدخول في منافسة كبيرة ومحتدمة سيكون المستفيد منها أجيال المستقبل.