لا يقتصر «الطوفان»، أو التغيير الساحق الماحق على شِق واحد فقط في عالمنا، بينما يوجد شِق آخر لا يصيبه شيء، فالتداخل القائم والتشابك بين المجتمعات والمصالح يرفض ذلك. ومن ثم من المهم متابعة ما الذي يجري في الداخل الأميركي الذي يتعرض الآن لنوع من التغيير الهيكلي، في خطواته الأولى، يقوده إيلون ماسك، المكلف والمفوض بلا قيود من الرئيس ترمب فيما يُعرف بتحسين كفاءة البيروقراطية الأميركية. فما يجري متفق عليه، ويحقق من وجهة نظرهما استعادة أميركا لعظمتها الغائبة.
معروف أن إصلاح الأجهزة البيروقراطية وتطوير مساراتها في أي بلد هو أمر محمود نظرياً وعملياً، ولكن يظل السؤال هو: كيف يتم هذا الإصلاح المرغوب؟ هل بالضربة القاضية التي تقضي على كل شيء والبدء من الصفر وربما من تحته؟ أم من خلال عملية مرتَّبة يسهم فيها الخبراء المعنيون؟
هنا أشير إلى حالة شهيرة مرت بها الولايات المتحدة من قبل، بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، التي جرى فيها تفجير البرجين الشهيرين في نيويورك، بطائرات مدنية مختطفة من عناصر على صلة بتنظيم «القاعدة»، حينها طُرح تساؤلان كبيران: أولهما «لماذا يكرهوننا؟» وقيلت في ذلك إجابات كثيرة، بعضها موضوعي، والغالبية عكست قصوراً في الفهم وإدراك مسؤولية الولايات المتحدة ذاتها، عن حالة الالتباس والرفض تجاه سياساتها الاستعلائية. لكن السؤال الآخر كان يتعلق بأمر عملي، وهو: لماذا فشلت الإدارات الأمنية -بما فيها الاستخبارات المركزية وأجهزة الأمن الفيدرالية- في اكتشاف المنفِّذين رغم رصدهم في بعض مراكز التدريب على الطيران في ولاية فلوريدا؟ كان السؤال يتعلق بالأسلوب الذي جعل أجهزة كبرى لديها خبرات هائلة، لم تستطع التعاون معاً لمنع هذا النوع من الأحداث المزلزلة.
جاءت الإجابة عبر تشكيل لجنة من 99 خبيراً من قبل الكونغرس، بقيادة مشتركة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بما عكس أن القضية ليست محل تنافس حزبي؛ بل هو شأن وطني جامع بامتياز، ومن ثم لا بد من التعاون والتنسيق والتوصل إلى رؤية موحدة لمعالجة أي خلل. وانتهى الأمر في صورة تقرير مفصل من 18 فصلاً، نُشر على الملأ، عالج قضايا نظرية وعملية وأمنية وعسكرية كبيرة. منها 3 فصول عالجت كيفية تطوير أداء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وإعادة تنظيم بعض الإدارات الفيدرالية الأخرى، وجاءت التوصيات مقدِّمةً لعدد من القوانين والتعديلات في الأداء الحكومي، والمطالبات بتعزيز دور الأمم المتحدة في رصد الحالات الأمنية المختلفة في العالم، بوصفه عملاً مسبقاً لإجهاض أي عمليات إرهابية كبرى. وبالفعل تم إصدار كثير من القوانين بالتعاون السلس بين الحزبين.
لو قمنا بمقارنة هذه الحالة السابقة بالوضع الراهن الذي يقوم به الملياردير إيلون ماسك، من تغيير الآليات الحكومية الفيدرالية، تحت اسم تطوير الأداء الحكومي، وبتفويض بلا قيود من الرئيس ترمب، ومن دون الرجوع إلى الكونغرس، وهو المؤسسة المعنية بمثل هذه الإصلاحات الكبرى، فسنجد عدة دلالات مثيرة: أولها الخروج الكامل عن الإطار المؤسسي، وثانيها تجاهل الكونغرس والحزبين الكبيرين (الجمهوري والديمقراطي)، وثالثها غياب كامل للعناصر ذات الخبرة من داخل المؤسسات المطلوب إصلاحها، ورابعها التركيز على إغلاق مؤسسات فيدرالية كبرى واتهامها بالفساد وتسريح أفرادها، وليس إصلاح أدائها وتطويره بما يناسب معايير محددة ومتفق عليها، وخامسها سيادة البعد الشخصي لدى المسؤول الأول عن هذه العملية غير المسبوقة، وسادسها التركيز فقط على خفض الميزانية دون النظر إلى التداعيات والأعباء الاجتماعية الأخرى، ولا سيما ما يتعلق بهؤلاء الذين سوف يتم تسريحهم من تلك المؤسسات الفيدرالية؛ سواء المدنية أو العسكرية والأمنية المختلفة.
الأكثر إثارة في هذه العملية أنها تستهدف مؤسسات ووزارات لم يتصور أحد أن هناك من يؤمن بضرورة إلغائها وشطبها من الوجود، وأشير هنا تحديداً إلى ما يُقال حول إلغاء وزارة التعليم، وترك العملية التعليمية من دون موجهات تعكس القيم العامة للدولة والمجتمع، ولنا أن نتصور كيف سيكون المجتمع الأميركي من دون موجهات قيمية عامة بعد عقد من إلغاء تلك الوزارة.
أشير هنا إلى مداخلة للسيد ماسك قبل عدة أشهر، حول تغول الذكاء الاصطناعي، وكيف أن المستقبل سوف يشهد سيادة «الروبوتات» في إنجاز كل ما يطلبه الاقتصاد والمجتمع، وأن الحكومات التي تدير كل شيء لن تكون مطلوبة في هذه الحالة، فكل شيء سيقوم به السيد «روبوت»، وسيتم توزيع مبالغ مالية على المواطنين، وهم لا يعملون أي شيء، فقط لكي يتحركوا ويشتروا ما يريدون. والمتصور هنا أن ما يقوم به ماسك في هدم البيروقراطية الأميركية وليس إصلاحها، يمهد لجعل هذا التصور حقيقة واقعة في أميركا في مدى زمني قريب إلى حد ما. عندها لن نعرف كيف سيتعامل السيد «روبوت» وذكاؤه الاصطناعي المُتحكم في كل شيء بأميركا مع قضايا العالم المختلفة، بأبعادها الأمنية والإنسانية والمجتمعية والاقتصادية المعقدة والمتشابكة، وكيف ستكون التحالفات والتشابكات الأميركية مع الآخرين، حلفاء أو غير حلفاء.
نحن أمام بدايات طوفان حقيقي في الداخل الأميركي، لا يُتوقع أن يصل إلى مبتغاه دون مقاومة، سواء كانت مباشرة عبر مظاهرات أو احتجاجات كبرى، أو قيود وعقبات تضعها المؤسسات الراهنة قبل تفكيكها، أو عبر ما تعرف بالمقاومة الصامتة من خلال البيروقراطيين أنفسهم، عبر تغييب الانضباط، والتأخر المتعمد في تنفيذ الأوامر وتغيير اتجاهاتها، والغياب المتعمد عن أماكن العمل، وكل أشكال الاعتراض التي تعرقل تطبيق الجديد المطلوب تنفيذه. والأهم هنا: هل ستسمح ما تُعرف بأجهزة الدولة العميقة بأن تصل أميركا إلى هذا الوضع؟ فلننتظر مفاجآت كبرى تبدو حتمية بنسبة كبيرة.