سألت قاضياً عربياً مرموقاً، ذات يوم: لماذا تَصدر الأحكام القضائية النهائية مغايرة بشكل كبير للحكم الابتدائي، مثل أن يتحول المتهم من مدان إلى بريء! فقال: «ربما اختلاف الخبرات». في إشارةٍ إلى أن درجات التقاضي العليا يقودها قضاة مخضرمون. سألته إن كان هناك معيار عالمي أو نسبة مئوية مقبولة للاختلاف، فلم أحصل على إجابة دقيقة منه. ثم اكتشفت أن المسألة تحدث كذلك في أميركا، إذ كشف باحثون في كتابهم الرائع «الضجيج» Noise، عن أن قضاة أميركيين تتفاوت سنوات حبسهم للمدانين بالجريمة ذاتها ما بين سنة واحدة و15 سنة!
المفارقة أن تعمُّق الباحثين في مجالات عدة كشف عن أن أحكاماً كثيرة تتباين نتائجها لأسباب غير متوقعة. ففي دراسة بعنوان «الغيوم تجعل المتفوقين يبدون أفضل»، اكتشف عالم سلوك أن الطقس يؤثر على قرارات القبول. إذ يُركز المسؤولون في الأيام الغائمة أكثر على الأداء الأكاديمي، بينما في الأيام المشمسة يميلون نحو الاهتمام بالأنشطة غير الأكاديمية.
وهناك عوامل أخرى كمزاج الموظف، ومدى جوعه، وخسارة فريقه الرياضي... أطلق عليها الكتاب مصطلح «ضجيج المناسبات»، (occasion noise)، على اعتبار أن مشتتات كثيرة تؤثر على قراراتنا حسب الظروف التي تعترضنا.
وجرى العرف أنه عندما يقرر القاضي الإفراج عن متهم بكفالة أو حجزه فإنه يحاول قبلها التنبؤ بسلوكه المستقبلي. لكنه حينما يخطئ يتسبب في حرمان بريء من حريته أو إخلاء سبيل مجرم. ففي دراسة راجعت 760 ألف جلسة كفالة، أظهر نظام خوارزمي ذكي أنه يستطيع تقليل عدد المحتجزين والجريمة لاحقاً بنسبة 24 إلى 42 في المائة مقارنةً بالقضاة (البشر). ويعود السبب إلى أن الناس يستندون إلى مشاعرهم أو حدسهم. وهو ما أطلق عليه الباحثون مصطلح «جهل موضوعي» يظن فيه صاحبه أنه على صواب في حين أن الواقع يجانبه.
هناك حلول كثيرة؛ منها استخدام الطرق الكمية. ففي عام 1906، طلب العالم فرنسيس غالتون من 800 قروي تخمين وزن ثور وُضِع أمامهم، فلم يفلح أي منهم في تحديد وزنه، لكنَّ المفاجأة كانت أنه حينما حسب المتوسط الحسابي لجميع الإجابات تبين أنه كان مطابقاً للرقم الحقيقي (بفارق رطل واحد). وهذا دليل على أن «رأي الجماعة» أكثر رجاحةً ودقةً من رأي الفرد الواحد. وهذا ما يدفع الحكماء إلى الارتياح لآراء مستشارين عدة بدلاً من الانفراد بالرأي أو الاستناد إلى رأي واحد. ولا تكفي ثقة المستشار بنفسه؛ فالثقة ليست دليلاً على دقة المعلومة. فحتى المجرم يتحلى بثقة مفرطة وهو يهم بالخروج من متجر سرقه.
على المستوى الفردي قد لا يظهر حجم الضرر، ولكن عندما نتعمق في ملايين القرارات الخطيرة والمتكررة في المجالات الطبية والقضائية والاقتصادية والتعليمية تتجلي عواقب تلك المشكلة.
التحيز، والعشوائية، والتسرع، والعاطفة، و«الفهلوة» كما يقول المصريون، كلها أمور تُحدث «ضجيجاً» يُربك متَّخِذ القرار ويدفعه باتجاه أحكام وقرارات تفتقر إلى الموضوعية حتى إن كان أصحابها يعتقدون خلاف ذلك.