حياكة شباك الصيد حرفة يتوارثها الصيادون في طرابلس اللبنانية

منذ 1 سنة 147

قبل أن تنثر الشمس شعاعها على شاطئ الميناء، يستعد عبدالرحمن السيد لنهار جديد من العمل في مهنة حياكة شباك الصيد، معتمداً التقنيات نفسها التي تعلمها قبل 40 عاماً على يدي والده. ولعبت الضائقة الاقتصادية دوراً في تنشيط تلك الحرفة اليدوية التي تخوض منافسة جدية مع الشباك الجاهزة، وتلك المستوردة من الخارج.

حرفة الآباء

يرتبط أبناء مدينة الميناء بعلاقة وجدانية مع البحر، فـ"هم كالسمك لا يمكنهم العيش بعيداً من الماء المالح"، يقول عبدالرحمن السيد، فهو واحة الطفولة والشباب ومصدر الرزق وميدان العمل. وعلى امتداد أحياء تلك المدينة التي تعتبر طرابلس البحرية، يكاد لا يخلو منزل من صياد أو بحار.

في منطقة مطلة مباشرة على البحر، على حافة مرفأ الصيادين، يمتهن عبدالرحمن حياكة شباك الصيد التي ورث فنونها الدقيقة عن الجيل الآباء. ويروي أنه "قبل 40 عاماً، بدأ العمل في البحر مع والده، وبعد أن توفي اضطرت العائلة لبيع مقتنياتهم، فما كان منه إلا أن انتقل إلى العمل اليومي في الميناء، وامتهان حياكة الشباك للصيد". ومع تعمق الضائقة الاقتصادية، شهدت الحرفة نشاطاً متزايداً. ويقول عبدالرحمن "الناس انتقلت إلى إصلاح الشباك من خلال الحائك لأن أسعار الشباك الجديدة باهظة للغاية"، ففي السابق كان الصياد يرمي الشباك التي تتمزق، أما حالياً فانتقل إلى مرحلة الترميم، مشيراً إلى أن كلفة الشباك الجديدة تتراوح بين 60 و75 دولاراً أميركياً.

عمل شاق

يقضي عبدالرحمن ساعات طويلة من النهار في حياكة الشباك، فيعتمد على أدوات بدائية بسيطة في عمله، مسابقاً الزمن قبل حلول موعد الإبحار إلى عمق البحر، حيث يبدأ فعلياً المحك الحقيقي لمتانة النسيج.

يحاول الحائك التكيف مع عوامل المناخ، يقاوم أحياناً أشعة الشمس، ولكنه سرعان ما يبدل مكانه بحثاً عن الظلال، بعد أن تخونه قطرات العرق على جبهته بفعل رياح البحر الرطبة. يلتزم الصمت أكثر الأوقات، مركزاً جهوده على تشبيك الخيوط البلاستيكية. تشي السرعة في حركة يديه بمهارة كبيرة في الحياكة، حيث تراه ينسق وفق آلية لا واعية جميع أعضاء جسده، وحواسه. تجده في حالة تركيز بصري دائم، وفي تناغم بين حركات اليدين والرجلين. يعتمد على اليدين لغرز القطب، فيما يلجأ إلى أصابع الأرجل لتثبيت الشبكة وتوسعتها.

لا يمكن الجزم بالمدة التي تحتاج إليها حياكة كل شبكة، حيث يلعب الحجم والقياس والخروق دوراً في إنجاز المهمة. يشير عبدالرحمن إلى أنه "يستغرق في إصلاح بعض الشباك يومين أو ثلاثة أيام. وعليه، فلا بد من تحلي الحائك بالصبر، وأن يتحمل أوجاع الجسم والظهر، فهي حرفة متعبة للغاية للعينين، والأيدي"، مؤكداً "في الفترة الماضية زرت الطبيب بسبب أوجاع الظهر واليدين، ولكنني مضطر لمواصلة العمل من أجل تأمين معيشته".

20230519_094354.jpg

قياسات دقيقة 

 ويحرص الصياد ابن الميناء على مسألة الحفاظ على الثروة السمكية. وعليه، ينتهج الحائكون طريقة دقيقة عند الترميم، حيث يلتزم الحائك من جهة أولى بالقياسات الأصلية للشبكة، كما يراعي ألا يكون سبباً لقتل الأسماك الصغيرة. ويؤكد عبدالرحمن "نعتمد الفجوة عيار 28، وهي متعارف عليها بصاحبة العيون الواسعة، وهي لا تقتل الصغار، على خلاف الشباك الضيقة التي لا تلتقط جميع أنواع الأسماك دونما تمييز"، كما أن اللجوء إلى الشباك يكون للصيد في المياه العميقة، من هنا لا بد وأن تكون الشبكة قوية ومتينة، وعادة ما تعود بأجود أنواع السمك، على غرار القريدس، و"الجربيدة"، و"الصبيدة"، وغيرها.

الشباك والحياة الطويلة

بعد نزولها إلى الماء، تواجه الشبكة أخطاراً مختلفة. ينتج البعض منها عن أنواع محددة كالسمك أو حتى بعض التيارات البحرية. ويعمد عبدالرحمن السيد إلى "تجنب أسماك (الدرفيل)، و(الطرز)، و(النفيخة)"، وهي أصناف غير صالحة للاستهلاك والسامة، كما تتسبب الأوساخ والنفايات بأضرار كبيرة على الشباك، ناهيك بالتيارات القوية التي يمكن أن تقودها إلى المناطق الصخرية، حيث تعلق هناك وتتمزق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الدخل المحدود

يعيش الصياد في معركة متواصلة مع المجهول، حيث يعول الصياد قبل كل رحلة على تحصيل "الرزقة الكبيرة"، والصيد الوفير في ختام نهاره، إلا أنه قد يتفاجأ أحياناً بتمزق الشباك أو فقدانها بسبب التيارات. ويتمسك عبدالرحمن بـأنهم "يعيشون كل يوم بيومه ولا يحققون فائضاً في الدخل والأرباح"، كما أن "الحياة صارت صعبة جداً، ولا بد أن يتحلى الصياد بالأمل، وأن يستمر في كفاحه من أجل البقاء".

اليوم، اختلفت حياة الصياد عما كانت عليه في الماضي، يقول عبدالرحمن "في السابق، كان الصيد وفيراً وكان الصياد يوزع كثيراً من أسماكه على المحيطين به". أما في الوقت الحاضر، فلم يعد لديه ترف التنازل عن صيده لتأمين كلفة إصلاح القارب والشباك وثمن المازوت، فهو يفضل بيع السمك لتأمين المازوت على تناوله والاستمتاع به.