إذا كانت المدة الزمنية التي تفصل خلال الوقت الراهن مطار محمد الخامس بمدينة الدار البيضاء المغربية عن مكة لأداء مناسك الحج تقترب من ست ساعات عبر الطائرة لقطع مسافة تتجاوز 5 آلاف كيلومتر، فإنه في زمن "المغرب القديم" كان الحجاج يقطعون المسافة ذاتها خلال أشهر عدة، بل كان كثير منهم لا يصلون إلى الحج ويلقون حتفهم في الطريق إلى هناك.
وتحفل بعض كتب التاريخ المغربي التي توثق رحلات الحج في أزمنة سابقة بكثير من الأحداث والأخطار والأهوال التي كان يواجهها الحجاج المغاربة في "الطريق المقدس" صوب مكة، خصوصاً أنهم كانوا يمتطون الدواب أو يقطعون المسافات مشياً على الأقدام.
رحلات الحج
كان مسار الحجاج المغاربة في الزمن القديم ينطلق، وفق مؤلفات تاريخية اهتمت بمسارات الحج من قبيل كتاب "الرحلة العياشية للبقاع الحجازية.. ماء الموائد" لصاحبه الرحالة الفقيه المغربي أبو سالم العياشي، من الجنوب المغربي في اتجاه جنوب الجزائر، كما كان هناك مسار آخر ينطلق من شمال البلاد صوب الجزائر ثم تونس فليبيا ثم إلى مصر باتجاه مكة.
وتبعاً لهذه المصادر فإن الحجاج المغاربة كانوا في أزمان خلت يتزودون بما يحتاجون إليه من مدينة سيجلماسة جنوب البلاد، وهي مدينة تاريخية كانت تقع وسط واحة كبيرة قبل أن تتحول حالياً إلى أطلال أثرية، ويتجهون إلى ورقلة في جنوب الجزائر لشراء اللحم لأكله والإبل لامتطائها.
أما المسار الثاني من شمال المغرب فينطلق من مدينة طنجة في اتجاه مدينة تلمسان الجزائرية ثم العاصمة، والعروج صوب تونس في مدينة قابس تحديداً، ثم الانطلاق نحو طرابلس وبعدها القاهرة التي تعد ملتقى حجاج المغرب والجزائر وتونس وليبيا، قبل الاستعداد للتوجه إلى مكة.
رحلة الحج في ذلك الزمن الذي لم تكن فيه طائرات ولا بواخر ولا سيارات، كانت تمتد في أحسن الأحوال أربعة أشهر وأحياناً ثمانية، لكنها قد تمتد في أقسى الظروف لأكثر من سنة واحدة أو سنتين، وفق ما أورده الرحالة المغربي العياشي.
وهذه الفئة من الحجاج المغاربة الذين يقضون طريق الحج خلال هذه المدة الزمنية الطويلة جداً هم في الغالب أضاعوا الطريق وضلوا السبيل نحو مكة لسبب من الأسباب، فيصلون متأخرين عن موسم الحج ليظلوا في مكة منتظرين موسم الحج الذي يليه.
والإشكال الذي يطرح بالنسبة إلى هؤلاء الحجاج الذين يصلون إلى مكة متأخرين لأداء المناسك ويضطرون إلى المكوث سنة إضافية هناك للقيام بشعيرة الحج، أن أسرهم غالباً لا تدري عن سبب تأخر قدومهم، فلا تعلم هل قضوا نحبهم في الطريق أم لا، باستثناء الذين يبلغون رسائلهم إلى عائلاتهم مع حجاج عائدين إلى البلاد.
في العصر الوسيط
ويعلق المتخصص في تاريخ العصر الوسيط والرحلات عبدالواحد بنعضرا بالقول إن مقولة "السفر قطعة من العذاب تنطبق جداً على سفر الحجاج المغاربة في العصر الوسيط"، مورداً أن الرحلة الحجازية للشيخ ماء العينين (1274هـ/ 1858م) اكتست أهميتها من كونه الأول من أسرته الذي حج وعاد حياً إلى موطنه، إذ إن كل من سبقه للحج مات قبل أن يرجع.
وأفاد بنعضرا "اندبندنت عربية" بأن "الطريق البري كان أكثر استعمالاً من السفر عبر البحر، خوفاً من التعرض للقرصنة البحرية، ولذلك كانت تتم الرحلات الحجية بشكل جماعي عبر القوافل لمواجهة الأخطار والمشكلات المحيطة بهذه الرحلات مع طول المسافة".
وأشار الباحث في التاريخ إلى أن سفر الحجاج المغاربة كان يتطلب في الأقل مدة عام ونصف العام للعودة إلى بلادهم، وقد وصل الأمر بعلي بن يوسف المرابطي أن استفتى ابن رشد الجد عام 515 للهجرة فأفتى بسقوط الحج عن المغاربة، بمن فيهم الأندلسيين كذلك، بسبب انعدام الأمن في الطريق، ثم تناسلت الفتاوى المؤيدة لها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى بعض الباحثين أن ركب الحاج الصالحي، نسبة إلى أبي محمد صالح المتوفى سنة 631 هـ، أتى كرد فعل على هذه الفتاوى ليظهر بعد ذلك الركب السجلماسي والشنقيطي والفاسي، وهذا الأخير الذي برز مع المرينيين واكتسى مع الوقت أهمية كبرى وأصبح نقطة تجمع لحجاج المغرب، وصار بمثابة الركب الرسمي قبل ظهور الركب المراكشي أيام السعديين، وقد كانت العادة أن يخرج الركب الفاسي في الـ 27 أو الـ 28 من جمادى الثاني.
ويردف بنعضرا أن "من المشكلات الأخرى التي كان يتعرض لها الحجاج المغاربة تفتيش أمتعتهم في بعض المناطق كمصر بشكل جعل بعض الرحالة يشتكون منه في نصوص رحلاتهم، ويعتبر ما كان يقع لهم ضرباً من ضروب الخزي والمهانة، فضلاً عن المكوس التي فرضت عليهم وورد الخبر بإعفائهم من أدائها من قبل بعض السلاطين، وكذلك عانى الحجاج من تعرض قطاع الطرق واللصوص لهم وسلبهم أمتعتهم وأموالهم.
ويكمل الباحث ذاته أن "الإقبال على الحج عبر الطريق البحرية أخذ في الازدياد تدريجاً إلى أن عرف انتعاشة كبيرة في القرن الـ 19 الميلادي، ولم يخل هو الآخر من أخطار، فإضافة إلى نقط تفتيش الحجاج وخطر التعرض للأسر من قبل القراصنة، فقد كانت هناك أهوال البحر وتقلبات أمواجه، إضافة إلى مسألة الحجر الصحي التي عاناها الحجاج كثيراً".
الحج مشياً في القرن الـ 20
الرحلة إلى الحج مشياً على الأقدام ليست بالضرورة، خصوصاً في أزمان قديمة لا توجد فيها طائرات أو بواخر، بل كان سفر كثير من المغاربة إلى الحج يتم أحياناً عبر المشي على الأقدام حتى في بدايات القرن الـ 20.
وفي هذا الصدد يحكي محمد بلفارح، وهو في عقده السابع، لـ "اندبندنت عربية"، مشاهد من رحلة الحج التي قام بها والده الراحل قبل قرن من الزمن إلى الحج اعتماداً على إمكانات بسيطة وزاد قليل، عبر المشي والاستعانة بدابة تحمل زاده في الطريق نحو مكة.
ويروي المتحدث كيف أن والده سرد لأمه وأبنائه صغاراً كيف أنه اجتاز كثيراً من المشاق والأخطار في الطريق إلى الحج، مبيناً أنها كانت طريقة محفوفة بالمشكلات والطوارئ التي تحدث للمسافر إلى الحج.
وتابع أن من الأشياء التي لا يزال يذكرها عن حج والده كونه تعرض للسرقة في إحدى البلدان العربية من طرف قطاع الطرق الذين ظنوا أنه يحمل مالاً وزاداً وعتاداً، فانقضوا على دابته وأشبعوه ضرباً ليسرقوا ما لديه من نقود قليلة كانت في حوزته.
وتابع المتكلم بأن والده واجه كل تلك المشاق حباً في رؤية مقام النبي محمد عليه الصلاة والسلام، إذ لم يكن يهمه ما تعرض له أبداً، بل كان يمني النفس بأن يكحل عينيه برؤية الكعبة المشرفة"، مورداً أن "رحلة والده إلى الديار المقدسة استمرت زهاء تسعة أشهر كاملة".
وحتى في زمن التكنولوجيا الحالية وزمن الطائرات السريعة فهناك مغاربة فضلوا أداء مناسك الحج بطريقة غير اعتيادية، من خلال المشي أو استخدام الدراجة العادية انطلاقاً من المغرب إلى مكة، وهو ما تحقق لبعضهم على رغم أن الرحلة استمرت أشهراً عدة.
ومن هؤلاء الرحالة المغربي الشاب ياسين غلام الذي وصل إلى الديار المقدسة 2020 بعد أن قضى أربعة أعوام في الطريق إلى الحج، ليتفاجأ بعدم قدرته على أداء مناسك هذا الركن العظيم، بسبب مصادفة وصوله مع التدابير الاحترازية في العالم كله جراء تفشي وباء كورونا، كما أن الرحالة محمد الحمدوني استطاع أداء شعيرة الحج العام الماضي بعد أن سافر إلى مكة من المغرب مشياً على الأقدام.