على مدار زمن طويل كان ظهور "البوسطجي" في أي منطقة في مصر تصاحبه لحظات من الترقب من كل من ينتظر رسالة من ابن أو صديق أو حبيب، تعقبها لحظات من السعادة الغامرة بتسلم الخطاب المنتظر أو حالة من الإحباط بانتظار أن يأتي ساعي البريد في جولته القادمة بالخطاب المنشود.
على مدار عصور طويلة كانت الرسائل هي الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الناس، فذاك الزمن الماضي لم يعرف الهواتف المحمولة، ولا الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تجعل الأحبة على مسافة ضغطة زر، وحتى الهواتف العادية في المنازل لم تكن متوفرة إلا في حدود ضيقة عند الأغنياء وعلية القوم. فكان تسلم الخطاب عيداً للمنتظر وظهور البوسطجي حدثاً مهماً خصوصاً في المناطق النائية والبعيدة التي كانت الرسائل المكتوبة هي الوسيلة الوحيدة التي تربطهم بالعالم الخارجي.
وتطورت الرسائل مع الزمن وقلَّت مع انتشار الهواتف في المنازل وبخاصة مع إمكانية الاتصال بالمحافظات الأخرى من البلاد من طريق ما كان يطلق عليه حينها اسم "الترنك"، ولاحقاً مع حقبة الثمانينيات والتسعينيات مع اتجاه المصريين إلى العمل في الخليج، اعتمد الناس شريط الكاسيت كبديل لآلاف الرسائل التي كانت في ذهاب وإياب بين المصريين في الخارج وأحبائهم في الوطن.
رواية شعبية للتاريخ
وتجاوزت رسائل العصر الماضي حالياً مجرد كونها مراسلات بين أشخاص ولكنها أصبحت مصدراً من مصادر التأريخ لفترات زمنية سابقة بما تتضمنه من تفاصيل ومواقف مرتبطة بأحداث مختلفة تمثل شكلاً من أشكال الرواية الشعبية للتاريخ.
عالم الرسائل الورقية القديمة مثَّل جزءاً من اهتمام عام بجمع كل ما هو قديم عند المنتج السينمائي حسام علوان الذي يعد حالياً من أشهر جامعي التراث في مصر، إذ يتعقب هذه الرسائل في الأسواق الشعبية التي تبيع المقتنيات القديمة وتمكن من جمع مجموعة شديدة التميز من رسائل المصريين تعود إلى فترة تمتد من بداية القرن الـ20 وحتى العصر الحديث.
يقول حسام علوان لـ"اندبندنت عربية" إن "الرسائل التي جمعتها تعكس ثقافة المصريين منذ أوائل القرن الـ20 إلى أن انتهى تقريباً عهد كتابة الرسائل. وتجاوزت هذه الرسائل حدود الرسالة التقليدية وأصبحت واحدة من مصادر التعرف إلى التحولات الاجتماعية عند المصريين فهي تضم كثيراً من الأخبار والمواقف وفيها انعكاس لكثير من الأحداث السياسية على الناس، فيمكن اعتبارها تاريخاً موازياً، ولذلك أهمية كبيرة لي كسينمائي، إذ تمكنت من التعرف على روح فترات زمنية مختلفة من التاريخ المصري وكيف كان الناس يتحدثون وما هي أبرز اهتماماتهم".
ويضيف "من بين أبرز مجموعات الرسائل التي جمعتها، مجموعة خطابات تعود إلى عام 1926 أرسلتها المبعوثة المصرية لدراسة الفنون في إنجلترا، إنعام سعيد، والتي صارت لاحقاً من مؤسسي كلية التربية الفنية في مصر. وكانت من الرعيل الأول للنساء اللاتي ابتعثن للدراسة في الخارج، فلا يوجد أي مصدر يروي لنا عن حياة هؤلاء المبعوثات، ولكن هذه الخطابات التي حرصت على أن تكتبها الطالبة إنعام أسبوعياً لأسرتها بأسلوب أشبه بكتابة اليوميات، أصبحت مصدراً للتعرف على كيف عاشت طالبة مصرية في مقتبل حياتها في الخارج من خلال سردها الأحداث في خطابات لأسرتها ولأخيها الصغير رشدي، الذي صار لاحقاً الدكتور رشدي سعيد، أحد أشهر علماء الجيولوجيا المصريين".
مع حبي وإخلاصي
من أشد الأشياء لفتاً للانتباه في الرسائل القديمة هو احتواؤها على قدر كبير من المفردات التي تعكس تدفقاً كبيراً للمشاعر بصورة يمكن القول إنها اندثرت تماماً في عصرنا الحالي مع طابع الرسائل الجافة التي تحملها كافة وسائل التكنولوجيا، فاستخدم المصريون مفردات كانت شائعة في خطاباتهم واختلفت باختلاف العصر ومن بينها "تحياتي وأشواقي، سلامي وقبلاتي، حبي وإخلاصي" وغيرها كثير من المفردات التي تعبر عن حالات مختلفة من الحب والاشتياق.
ويشير علوان إلى أن "من بين أهم الرسائل التي جمعتها هي مجموعة رسائل عاطفية بين ثنائي في الفترة ما بين أواخر الخمسينيات ومنتصف الستينيات من القرن الماضي، عصام وافتتان، اللذين تواصلا في مراسلات بديعة تفيض بالمشاعر على مدار سنوات وتزوجا، واستمرت المراسلات أثناء وجود عصام خارج مصر. وهي بحق حالة شديدة الجمال من جوابات المصريين. والجدير بالملاحظة بصورة عامة، هو أن تأثر الناس بالثقافة السمعية والبصرية كان سابقاً أكبر بكثير فحفلت خطابات كثيرة باقتباسات من أشهر الأغاني التي كانت سائدة بحسب الحقبة الزمنية فوجدت كلمات من أغاني أم كلثوم ولاحقاً عبدالحليم ووردة".
ويضيف "كان هناك شغف وانتظار وترقب للرسالة من ثم مشاعر فياضة تصاحب كتابتها أو الرد عليها، وهناك مقولة تفيد بأنه كلما زادت وسائل التواصل قل التواصل فعلياً وهذا هو بالضبط ما نعيشه في العصر الحالي، أما في عصر الرسائل فكان الخطاب الذي يرسله الشخص إلى أسرته أو أصدقائه، أو الخطاب الذي يرسله الحبيب لحبيبته هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الأخبار ومن دونها ينقطع التواصل تماماً، ومن هنا تأتي قيمته".
جوابات ريما
الحالة الخاصة التي تثيرها الرسائل الورقية في نفوس الناس بالعودة إلى الذكريات، مثلت شغفاً عند شابة مصرية فعملت على إحيائها من خلال تصميم مجموعات متنوعة من الخطابات للراغبين بالحصول على رسالة خاصة لتقديمها إلى شخص عزيز.
"جوابات ريما" صارت ملاذاً لكثير من محبي الرسائل الورقية بكل ما تحمله من مشاعر تختلف بشكل كلي عن الرسائل الإلكترونية التي أصبحت سمة العصر الحالي، فتأخذ الرسالة الورقية متلقيها في رحلة عبر آلة الزمن إلى أجواء منتصف القرن الـ20 بكل ما يحمله من طابع ومفردات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقول ريما الحبيبي، "منذ طفولتي أرى لدى أمي حقيبة خاصة تحتفظ فيها بالرسائل التي كانت تأتيها من جدي ولاحقاً من أبي الذي كان مسافراً للعمل في الخارج حينها وكانت هذه الخطابات تمثل لها قيمة كبيرة مما دفعني إلى كتابة الرسائل لأصدقائي في طفولتي بسبب حبي وارتباطي بالخطابات الورقية. في السنوات الأخيرة اتجهت إلى تصميم الخطابات الورقية بأشكال تتناسب مع كافة الحالات مثل الصلح، الحب، والعتاب وغيرها، وأدعمها بصور وعبارات من أفلام السينما القديمة لتتماشى مع حالة الذكريات، وأقبل الناس عليها لإهدائها لأحبائهم باعتبارها تمثل حالة مختلفة عن إرسال رسالة عبر الوسائل الإلكترونية".
وتضيف "الغريب في الأمر وما كان غير متوقع بالنسبة إليّ هو أن هناك إقبالاً كبيراً من الأجيال الجديدة على مثل هذه الخطابات بعكس ما توقعت، فهي بالنسبة إليهم شيء جديد وحالة خاصة مختلفة تماماً، وفي أحيان أخرى يطلبها الصغار لإهدائها للأم أو الأب أو للمدرسين في نهاية العام الدراسي على اعتبار أنها ستمثل قيمة كبيرة بالنسبة إليهم، لتقديرهم قيمة الرسالة المكتوبة خصيصاً لهم بحب واهتمام. التفاصيل الملموسة بصورة عامة تختلف في إحساسها تماماً عن الرسالة الإلكترونية ويكون لها وقع مختلف على المتلقي".
وتتابع "من بين أغرب المواقف التي مرت عليّ مع الرسائل، هي طلب البعض أن أصمم رسالة وأرسلها لهم، سواء كان محتواها مجهولاً تماماً بالنسبة إليهم أو يخبرني بلمحة عن حالته النفسية، مثل رغبته في رسالة دعم أو تشجيع أو مساندة في موقف معين. وبالمناسبة هذا من الأشياء المحزنة بدرجة كبيرة على اعتبار أنها تمثل حالاً كبيرة من الوحدة وانعدام التواصل والعلاقات الإنسانية الحقيقية مع الناس".
"الجوابات" في السينما والأدب
ارتبطت أحداث أفلام مصرية عدة بصورة كبيرة بالرسائل بصور مختلفة ومن أشهرها فيلم "البوسطجي"، بطولة شكري سرحان الذي استطاع التعرف على أسرار أهل القرية من خلال رسائلهم، وفيلم "رسالة من امرأة مجهولة"، من بطولة فريد الأطرش ولبنى عبدالعزيز، ومشاهد عدة من أفلام ارتبطت أحداثها برسالة وعلقت في أذهان الناس مثل "نهر الحب" من بطولة عمر الشريف، وفاتن حمامة، ورسائل الحب المتبادلة التي كانت وسيلة التواصل الوحيدة بين بطلي الفيلم، خالد ونوال، ومشاهد كثيرة من فيلم "الباب المفتوح" وخطابات حسين (صالح سليم) إلى ليلى (فاتن حمامة).
وعندما تذكر السينما الأجنبية فإن واحداً من أشهر الأفلام في ما يتعلق بالرسائل الإلكترونية وبداية التحول نحو اعتماد البريد الإلكتروني كوسيلة أساسية للتواصل هو واحد من أشهر أفلام حقبة التسعينيات "لديك بريد" (You've Got Mail) من بطولة ميريل ستريب وتوم هانكس.
أدب الرسائل
ولم ينفصل الأدب عن الرسائل بل إنه شكل أحد فروعها، فأدب الرسائل كان مزدهراً على مدار حقبة زمنية طويلة وتزخر المكتبة العربية بأعمال قيمة في هذا الشأن تعبر عن قوة ورقي اللغة والبلاغة وتدفق وسلاسة الأسلوب في كتابة درر من الرسائل صارت الآن من تراث الأدب العربي.
من بين أشهر تراث أدب الرسائل في العالم العربي في العصر الحديث، كتاب الرسائل الذي تضمن رسائل متبادلة بين محمود درويش وسميح القاسم، ويضم نخبة فريدة من الرسائل المتبادلة بين الشاعرين الكبيرين، والرسائل المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران التي استمرت على مدار سنوات طويلة من دون لقاء بينهما، وفي ما يتعلق بأدب الرسائل عالمياً تأتي رسائل كافكا إلى ميلينيا، ورسائل الكاتب الفرنسي ألبير كامو إلى حبيبته ماريا.
وفي ما يتعلق بعالم الشعر وتحديداً شعر العامية، تأتي واحدة من أشهر الأعمال للراحل عبدالرحمن الأبنودي "جوابات الأسطى جراحي القط" العامل في السد العالي بأسوان لزوجته فاطمة، التي يصف لها حاله، وتمثل تعبيراً وانعكاساً حقيقياً لأحوال هذه الفترة في حياة كثير من المصريين.
كاد أدب الرسائل في الوقت الحالي يندثر إلا من محاولات قليلة لبعض الكتاب الشباب الذين ارتبطت بعض إصداراتهم بهذا النوع من الأدب، ولكن يثار التساؤل: هل مراسلات العصر الحالي السريعة عبر كافة الوسائل الإلكترونية يمكن أن ينتج منها مستقبلاً أي شكل من أشكال الأدب؟
يقول الكاتب والناقد أحمد صلاح هاشم، إن "أدب الرسائل هو أحد الأنماط الأدبية المعروفة وله أكثر من شكل وإلى جانب الأعمال التي نشر فيها رسائل حقيقية متبادلة بين أشخاص معروفين، هناك روايات قامت على فكرة الاعتماد على مراسلات ليس بها زمان أو مكان فهي من خيال الكاتب وتنقل من خلالها الأحداث للقارئ، وبالفعل قمت بذلك في واحدة من القصص ضمن مجموعتي القصصية الأخيرة".
ويضيف أن "الرسائل شائعة في الثقافة العربية منذ عصور، وأمهات الرسائل التي وصلت إلينا تفيض بالمشاعر والأشواق وتحمل في كل كلمة منها جزءاً من روح صاحبها، فالبعد والغياب كان دافعاً وحافزاً لإثارة المشاعر، ولكن في عصرنا الحالي الغياب ذاته أصبح غائباً والتراسل الفوري بعبارات قصيرة وجافة عبر الوسائل التكنولوجية المختلفة جعل مفهوم الحب نفسه يتغير عند الأجيال الجديدة التي أصبح لديها مشكلة شائعة بصورة عامة وهي عدم القدرة على التعبير كنتيجة للاعتماد على قوالب جاهزة مثل الـريلز، ومقاطع الفيديو، وغيرها للتعبير عن المشاعر، ولذلك لدى تلك الفئة نقص في الذكاء الاجتماعي واللغوي".
ويستكمل "أما بالنسبة إلى تحول مراسلات العصر الحالي إلى شكل من أشكال أدب الرسائل، فيمكن أن يحدث هذا إذا تطورت أشكال جديدة من الأدب، فلغة الحياة اليومية من الصعب أن تصبح لغة أدبية رصينة مثل أدب المراسلات الذي نعرفه، فالتراسل الفوري لغته عادية وليست مثيرة للدهشة وليس بها خروج عن المألوف، ولكنها ستكون بلا شك إحدى أدوات التعرف على سمات هذه الحقبة، الأدب يشترط الابتكار والمجهود والفرادة وصدق التجربة وهذا يتناقض بدرجة كبيرة مع تراسل التواصل الاجتماعي، فليس كل ما ينشر أدب حتى لو سماه البعض كذلك".