تقطير الزهر عادة سنوية قديمة توارثتها أجيال تونس

منذ 1 سنة 169

بحلول فصل الربيع، ينطلق موسم جمع زهرة "النارنج" ليمتد أسابيع عدة ليبدأ تقطير روح الزهور. وفي هذا الوقت من السنة تتحول محافظة نابل في تونس إلى خلية نحل حقيقية، إذ يشرع أهالي المنطقة في جمع المحصول من البساتين أو من الأشجار التي غرست في حدائق المنازل أو تلك المترامية على طول الطرق.

وزهرة النارنج زهرة ناصعة البياض فائحة الرائحة تزهر في أشجار النارنج وهو البرتقال المر. وتعتبر هذه الزهرة من أجود أنواع الزهور في منطقة البحر الأبيض المتوسط مما جعلها مقصداً لأهم مصانع العطور الفاخرة بخاصة الفرنسية منها.

ويسمى الماء المستخرج من زهرة النارنج "زهر" أي الكلمة نفسها التي تدل بالعامية التونسية على "الحظ"، وهي فعلاً حظ حقيقي وثروة لأهالي المنطقة.

زهرة_النارنج.jpg

تعتبر زهرة النارنج من أجود أنواع الزهور في منطقة البحر الأبيض المتوسط مما جعلها مقصداً لأهم مصانع العطور الفاخرة (اندبندنت عربية)

طقوس وعادات خاصة

تقول رانيا، شابة تعلمت تقطير الزهر منذ نعومة أظفارها في بيت جدتها، "في عطلة الأسبوع وعلى امتداد فصل الربيع يجتمع كل أفراد الأسرة لجمع زهر النارنج من بستان العائلة الشاسع، نساء ورجال وأطفال كلهم يتجندون منذ الصباح الباكر يفرشون البساط تحت الأشجار ويصعدون السلالم لجمع الزهور. عملية القطف تستمر أياماً لتشرع بعدها النساء في تقطيره بعناية فائقة ويوضع في قوارير خاصة عادة ما تكون مزركشة بطريقة جذابة لتستقبل قطرات زهرة النارنج".

ويعتبر موسم تقطير الزهر في نابل (65 كيلومتراً جنوب العاصمة تونس) مصدر دخل لقرابة 3500 أسرة.

تقطير الزهر عادة سنوية قديمة توارثتها النساء التونسيات جيلاً بعد جيل تميز تونس عموماً ومحافظة نابل خصوصاً.

وتتابع رانيا المتحصلة على شهادة في الميكانيك حديثها قائلة "تتم عملية التقطير بواسطة (القطار) وهو إناء يحتوي على أنبوب يقطر منه ماء الزهر عن طريق البخار. هذه العملية تستغرق عادة يوماً كاملاً وتتطلب مجهوداً دقيقاً وشاقاً وأيضاً طقوساً وعادات خاصة"، وأوضحت أن شروطاً خاصة يفترض أن تصاحب هذه العملية يجب تنفيذها بعناية، أولها أن يكون مكان التقطير نظيفاً جداً ومعطراً بـ"عود قماري" أو "عود الند"، وأن يكون بيت التقطير مكاناً خاصاً وألا يتم ذلك أمام أنظار إلا من يقوم بالتقطير، إذ يتشاءم أهالي المنطقة من الأعين التي قد تصيب عملية التقطير بالفشل وربما بتكسير أواني التقطير.

زهر_7777.jpg

تسمى الوحدة الأساسية لوزن الزهر "الوزنة" وهي تعادل أربعة كيلوغرامات (اندبندنت عربية)

وتسمى الوحدة الأساسية لوزن الزهر "الوزنة" والتي تعادل أربعة كيلوغرامات، ويستخرج منها بعد التقطير مقدار زجاجتين أوليتين من ماء الزهر العالي والمركز وزجاجتين من السائل العادي.

أما أهم سائل يجمع بدقة وبإبر خاصة فهو زيت الزهر، وهو ذلك الذي يطفو على وجه زجاجة ماء الزهر، ويجمع قطرة قطرة ويسمى روح الزهر الذي يقتنيه منتجو العطور الذين يأتون كل سنة إلى الوطن القبلي أثناء فترة تقطير الزهور.

يحفظ ماء الزهر في قوارير خاصة تسمى "فاشكة" وتعني قارورة باللغة الإسبانية، وهي قوارير منتفخة في أسفلها وتثبت على سلـة من البلاستيك أو من السمار وهي مادة طبيعية. وتتفنن نساء نابل في تزيين هذه القوارير، إذ يصنعن لها أغلفة مطرزة بخيوط فضية وأخرى ذهبية لامعة، ولا يخلو أثاث الزواج من تلك القوارير الجميلة المزينة التي تأخذها معها العروس إلى بيت زوجها.

وبالعودة إلى عملية التقطير، تقول رانيا "تصاحب مناسبة جمع وتقطير الزهر أهازيج للتبرك واحتفالية خاصة بتحضير ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات". وتضيف أن "من قام بعملية التقطير في منزله يجب أن يعيدها سنوياً، لأن أهالي نابل يتطيرون من الانقطاع عن هذه العادة التي قد تؤدي إلى فقدان فرد من أفراد العائلة، وهذا ما يفسر انتشارها هنا بشكل كبير، فمنهم من يجعل من عملية التقطير مهنة والأغلبية للاستعمال الشخصي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شجرة الخير

ويطلق أهالي نابل على شجرة النارنج "شجرة الخير" لما تدره عليهم من ربح وفير. وهي من عائلة أشجار الحمضيات أدخلها الأندلسيون إلى تونس، وشهد سعر الكيلوغرام الواحد من زهرة النارنج ارتفاعاً غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة، وذلك لتحويل كثير من مزارعي المنطقة محصولهم من السوق المحلية إلى السوق الخارجية وبخاصة الفرنسية لصنع العطور الفاخرة.

وتصدر تونس بين 700 و750 كيلوغراماً من روح الزهر "النرولي" بثمن يفوق 20 ألف دولار للكيلوغرام الواحد، يتهافت عليه صانعو العطور الفاخرة الذين يشترونه قبل أن تزهر الأشجار، وذلك لجودته مقارنة ببلدان أخرى.

وتأتي تونس في المرتبة 35 من البلدان المصدرة لزيت زهور البرتقال، ويتم في الوطن القبلي تقطير عدة زهور أخرى كالورد والعطرشاء الفواحة التي ارتفع مستوى غراستها في السنوات الأخيرة.

وتطور فن التقطير في تونس ليشمل حشائش برية غابية أخرى كالزعتر والكليل، وهو تطور أسهمت فيه بالخصوص برامج مساعدة المرأة الريفية على بعث مشاريع خاصة.