تأثير نظام الولايات الأميركية المرجحة ومرض الديمقراطية

منذ 4 أسابيع 31

قبل ألفين وأربعمائة عام كتب أفلاطون كتابه «الجمهورية» الرائع شارحاً لماذا لا يحبذ النظام الديمقراطي، ولماذا اعتبره أسوأ الأنظمة التي حددها بثلاثة أنواع: النظام الأرستقراطي حيث الحاكمون يملكون المعرفة والأخلاق ولا يهمهم إلا مصلحة الدولة، والنظام الديمقراطي وفيه يسعى الحاكمون إلى الفخر والمركز والمجد العسكري، ثم النظام الأوليغارشي وفيه يحكم أصحاب المال الدولة. الأخير يهتم أصحابه بتكديس المال مصدر كل الرذائل بكل أنواعها، ولذلك يتمرد الناس عليهم فيخشون الثورة ويقبلون مضطرين بالديمقراطية لتقرر الأكثرية من يحكمها. ويرى أفلاطون أن العامة من الناس ليست لهم حكمة طبقة الأرستقراطية، ولا خبرة الديمقراطية، وعلى الأرجح هم جاهلون وأنانيون، وحاسدون وعنصريون ومتنافسون مع بعضهم؛ ولأنهم كذلك يُصدِّقون من يدلِّس عليهم ويَعِدهم بالمنِّ والسلوى. ويجد المتابع للانتخابات الأميركية شيئاً مما تنبأ به أفلاطون حيث يلعب المال دوراً كبيراً في تغيير قناعات الناس، وحيث المعرفة غائبة، والتعصب مهيمن، والتنافس على أشده بين شرائح العامة.أفلاطون ليس كل كلامه صائباً، إنما بعض توقعاته من تراجع رصيد الديمقراطية، وتخلخل مؤسساتها، واهتزاز صورتها، نراه رأي العين في أميركا. ورغم أن أميركا فريدة في نوعها في تاريخ البشرية، بالقوة العسكرية والاقتصادية والحرية والهيمنة الثقافية، وتنوع الأعراق والأديان... فإن متابع انتخاباتها يجد ظهور أعراض مرضية تحتاج للاستفاقة والمداواة قبل فوات الأوان. وأهم هذه الأعراض نظام الولايات المرجحة، وهي ولايات قليلة العدد سكانياً مقارنة بمجموع سكان الولايات المتحدة الإجمالي، لكنها تحظى بأفضلية بما يسمى نظام «المجمع الانتخابي» (Electoral college)، وفيه يختار سكان الولاية المرجحة المرشح الرئاسي بالتصويت الأكثري؛ بمعنى أن الرئيس الذي ينال أكثرية ولو بفارق صوت واحد؛ ينال أصوات كل الممثلين في المجمع الانتخابي، ويتحدد عددهم بعدد ممثلي الولاية في الكونغرس ومجلس النواب. ونظام المجمع الانتخابي جاء نتيجة عقد صفقة بين الولايات الجنوبية والشمالية بُعيد انتهاء الحرب الأهلية (1787) بعدما رفض سكان الولايات الجنوبية التي كانت تعتمد على العبيد في مزارعها، توزيع الممثلين حسب عدد السكان؛ لأن نسبة السود في ولاياتهم عالية جداً، ولا يحق للسود التصويت، مما يعني أن البيض في الولاية سيحصلون على عدد ممثلين أقل من الولايات الأخرى؛ لهذا عُوِّضوا بعدد متعادل مع بقية الولايات الأخرى. وفي عام 2019 قضت محكمة فيدرالية أميركية بأن ممثلي الولايات ليسوا مجبرين على التصويت لمن كسب الانتخابات بالولاية، بل يمكنهم أن يصوتوا لمن نال أكبر عدد من الأصوات في كل الولايات الأميركية. لكن المحكمة الدستورية أبطلت القرار، ولم يرَ الحزبان الجمهوري والديمقراطي مصلحة لهما بتغيير هذا الاعوجاج الديمقراطي.هذا النظام «اللاديمقراطي» دفع المرشحين للرئاسة للتركيز أكثر على كسب تأييد الولايات المرجحة بإغداق الوعود عليها والإغراءات خلال الانتخابات وبعدها؛ كما أعطى ذلك نتيجة مخالفة للديمقراطية؛ لأنه بكثير من الحالات يفوز المرشح بالرئاسة بنظام المجمع الانتخابي، ويخسر على مستوى عدد الأصوات الإجمالي في كل أميركا؛ ففي انتخابات عام 2016 نالت هيلاري كلينتون عدد أصوات أكثر بنحو ثلاثة ملايين صوت من دونالد ترمب على مستوى الاقتراع المباشر، وخسرت الانتخابات؛ لأن منافسها فاز بنظام المجمع الانتخابي بـ306 أصوات في حين نالت 232 صوتاً. ومن علل هذا النظام أيضاً إعطاؤه وزناً أكبر للأقليات في السياسة الخارجية، وعلى حساب مصلحة الأكثرية العددية؛ لأن أصوات الأقليات بحكم أصولها تصوت لمن يدعم توجهاتها الخارجية. كمثال، فإن عدد الأميركيين من أصول فنزويلية في ولاية فلوريدا يصل تقريباً إلى نصف مليون، وبالتالي لهم تأثير كبير على من سيفوز بأصوات ممثلي الولاية البالغين ثلاثين ممثلاً، وهؤلاء يصوتون عادة لترمب؛ لأنه يتشدد مع نظام فنزويلا (مادورو) الاشتراكي الكارهين له، مقارنة بالرئيس جو بايدن الذي عقد صفقة مع الرئيس نيكولاس مادورو لعودة المعارضة وإجراء انتخابات برلمانية انتهت بكارثة. كما أدى تزايد نفوذ الأقليات إلى تذمر البيض، والشعور بأنهم مضطهدون، وبدء المطالبة بالتراجع عن إصلاحات منحت الأقليات امتيازات كالتمييز الإيجابي في الداخل. هكذا أصبح البيض، وهم أكثرية، يطالبون بحقوقهم المسلوبة، وإذا ما تمت الاستجابة لهم فسيؤدي ذلك إلى إضعاف صوت الأقليات في الولايات المرجحة.

في هذا السياق المضطرب يلعب رجال المال دوراً كبيراً في الترويج لمرشحهم لمنحهم امتيازات تشريعية واقتصادية تعزز رصيدهم المالي؛ فالأغنياء ينفقون الملايين، وبلا سقف، ويسخِّرون مؤسساتهم الإعلامية، لإقناع العامة بمرشحهم؛ لأن فوزه كسب لهم وخسارة للعامة. هكذا تصبح العامة الطريدة، فتُعطى المحفزات والإغراءات، وتُزرع فيها المخاوف من الآخر، فتصوت، كما قال أفلاطون، بمعيار الجهل، والأنانية، والحسد، والتعصب، وتثور غضباً عند سقوط مرشحها، وتلعن الديمقراطية، وتصرخ لتغيير قواعدها، فيكون حالها كحال من يطلق النار على رجله!