الشائع هو أن كل البشر بعضهم مثل بعض من وجهة النظر البيولوجية على الأقل؛ لكن الإنسان ليس ظاهرة بيولوجية فقط وإنما هو شخصية اجتماعية واقتصادية وسياسية، وحتى بين كبار الأطباء فإن كل إنسان حالة وحده بما فيه من توارث الخلايا، وبيئة التربية، وثقافة المحيط بما يرى ويسمع ويأكل ويشرب. الدول والأمم كذلك لكل منها ما يجعلها متفردة عن الأخريات، وجاء هذا التفرد من عملية تاريخية فيها ما هو طبيعي ومتوارث، وما هو تحت الصهر والتكوين من قِبل الجغرافيا والديمغرافيا والتاريخ. وإذا كان الإنسان إلى حد غير قليل أسير والديه؛ فإن الدول والأمم أسيرة جغرافيتها وجيرانها وتوالي كليهما في الأزمان والعصور. هي عملية تاريخية حديثة في معظمها عندما تمزقت إمبراطوريات تاريخية تجمعت على أسس أغلبها ديني وولاء للإمبراطور شخصية وأسرة مقدسة وقيادة عسكرية. ليس صدفة أنه رغم التغييرات الكثيرة التي جرت على العالم خلال القرنين الأخيرين، فإنه لا يزال بين دول العالم إمارات أو ممالك تحكمها أسرة كانت هي التي وضعت اللحمة بين أهل البلاد. في أوروبا لا تزال الملكية، وإن تغيرت كثيراً مع العصر، موجودة بأعلامها الصليبية، وبلاطها بتقاليده ورموزه التي تخلق عروة وثقى بين أفراد باتوا قبيلة كبيرة اسمها إنجلترا أو الدنمارك والسويد وهولندا، وحتى إسبانيا بعد الحرب الأهلية واستيلاء فرنكو على السلطة، لم تعد الروح فيها إلا مع رجوع الملكية. الغريب أن الثورة في فرنسا على «البوربون» كونت نواة الجمهورية الفرنسية الأولى؛ لكنها لم تستقر إلا عندما بلغت الخامسة التي أسسها الجنرال ديغول. الثورة الأميركية كانت جزءاً منها التمرد على آل «ستيوارت» في لندن. لكن هذا المثال أو ذاك كان وسيلة لوضع خميرة ائتلاف جمعي فيه شعب متماسك يشعر كل فرد فيه بأنه ينتمي إلى الآخر أكثر مما هو موجود في أي فرد آخر في العالم. في العالم العربي كانت دول الأسر الملكية هي التي صمدت في وجه «الربيع العربي» ورياحه وأعاصيره لأن الرابطة الملكية كانت الأقوى.
مناسبة الحديث هي ما نشاهده في سوريا، حيث لا تتوقف خرائطها عن التمييز ما بين جماعات، ويكاد الأقرب إلى العقل في رؤية مستقبلها يجد أن الطلعة الأولية الهادئة حول «الشمول السياسي» واحترام الأقليات هو زعم زائف وليس حقيقة صادقة. الحرب الأهلية السورية بعد «الربيع السوري» لم تصهر الجميع في بوتقة واحدة دفاعاً عن وطن سوري وإنما خلقت حقيقة انفصاماً عميقاً لم يقربه من بعضه بعضاً إلا القصفان الروسي والإيراني و«الحرس الثوري» و«حزب الله». بقاء بشار الأسد لم يكن ممكناً إلا فوق الكثير من الجماجم السورية، والتنازل عن أكثر من ثلث البلاد لأقوام أخرى كان من بينها دولة «الخلافة الإسلامية» التي تجمع أفرادها على القتل للرجال والاستعباد للنساء. «هيئة تحرير الشام» وزعيمها محمد الجولاني أو أحمد الشرع، لا فرق، كانت قائدة للمرحلة الأولى لكي تفتح حلب وحماة وحمص ثم دمشق؛ وبعدها تنشر وعودها الشاملة بيمينها، وتنظر إلى يسارها بينما تجري عملية تدمير الجيش السوري في عديده بالهروب، وعتاده بالقنابل والصواريخ. وخارج «الهيئة» تجد جماعات قائمة على الخروج من سوريا مثل الأكراد والتركمان والعلويين؛ وجماعات تريد استئناف القهر بالقتل مثل «داعش»، وحولهم بعد ذلك جماعات جميعها دينية مقدسة.
كثرة اللاعبين لا تفضي إلى رابطة «هوية»؛ لأن الهوية عملية تاريخية لها صياغة مقبلة من تاريخ، كما النغمات تغنى، وكما النسيج ينسج، وما بين هذا وذاك يوجد الاتصال والاتفاق على لغة للتواصل واتفاق على الأسماء. في مثل هذه الحالة لا يوجد اقتتال، هي حالة من التحريم الذي لا يقتل فيها الأخ أخاه؛ وإذا ما حدث فإن الندم قادم وعميق. للأسف الشديد، فإن نصف العالم العربي على الأقل لا يعرف محاسبة الذات، فما عرفت «حماس» ثمن انقلابها على «فتح» والسلطة الوطنية الفلسطينية وعائدها القاسي على القضية الفلسطينية. التكرار حدث أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وما بعدها أعطى لـ«حزب الله» حقوق الثلث المعطل في سابقة لا تعرفها هوية ولا دولة. السودان حالة وحده، وربما كان غياب الهوية في حاجة إلى ابتكار، عندما تمردت «قوات الدعم السريع» على الجيش خالقة ميليشيا خاصة ذائعة في دول عربية كثيرة لا تشارك بقية الوطن هوية، وإنما على استعداد لإخضاعه تحت السلاح. لم يبقَ وقت طويل على التراجيديا السورية حتى تنفض العلاقة بين «هيئة تحرير الشام» وبقية الجماعات التي لا توجد الوطنية السورية في دماء أي منهم.