ملخص
وجدت النايات مرسومة على جدران المعابد المصرية القديمة بشكلها الحالي، فهي واحدة من أقدم الآلات الموسيقية التي عرفتها البشرية.
أعطى "الناي" السيدة فيروز سراً من أسرار الوجود، فغنت حتى خلعت معها القلوب بواحدة من أجمل أغنياتها، لكنها لم تكن لتحظى بتلك الشهرة من دون تلك الآلة الموسيقية الشجية القادمة من قلب الطبيعة، لتصاحب كبرى الفرق الموسيقية، وتسجل حضوراً قوياً في أكبر الأوركسترات بصوت متفرد لا يمكن الحصول عليه من أية آلة أخرى.
وجدت النايات مرسومة على جدران المعابد المصرية القديمة بصورتها وشكلها الحالي، فهي واحدة من أقدم الآلات الموسيقية التي عرفتها البشرية، وواحدة من أقدم التجارب الموسيقية التي عرفها الإنسان.
جاء الناي بالأساس ابناً لبيئته، فانتشار نبات البوص أو القصب في بعض مناطق دول حوض البحر المتوسط، ومنها مصر جعل الإنسان يتأمله ويتفاعل معه، ليحاول ابتكار هذه الآلة البسيطة واستخدام النفخ مستلهماً من الأصوات الناتجة من احتكاك الهواء بالنبات، لينتج صوتاً شجياً كحصيلة للاندماج بين النبات والهواء وإبداع الإنسان، لتبقى نغماته على حالها لم يصاحبها التغيير على رغم تغير الأزمنة والأماكن والأشخاص.
استمر الناي على مدار آلاف السنين بصورته وحالته شبه الأصلية، إذ لم يدخل عليها جديد يذكر فصناعته لا تزال يدوية أو باستخدام آلات بسيطة لقطع النبات وتفريغ الثقوب وتعتمد بشكل رئيس على حرفة الصانع ومهارته وآذانه الموسيقية، إضافة إلى حبه واهتمامه بما يفعله فهو في النهاية اهتمام وشغف بإبقاء هذه الآلة حية واستمرارها كرمز من رموز الفن المصري.
عبدالرحمن غانم، العازف وصانع النايات، بدأ في هذا المجال منذ 13 عاماً عازفاً، ليحول اهتمامه بالناي إلى رغبة في البحث عن طرق صناعته حتى أتقنها وصار يجمع بين العزف والصناعة معاً.
يقول غانم في حديثه لـ"اندبندنت عربية" إن "آلة الناي هي المتحدث الرسمي للتاريخ المصري، وهي أول آلة موسيقية عرفها التاريخ بعد الآلات الإيقاعية مثل الدفوف والمطارق، ولدينا أمثلة كثيرة من نايات اكتشفت في مقابر مصرية قديمة مثل سقارة وأخميم وبني حسن وبني مزار وجدت فيها نايات يعود تاريخها لـ4 آلاف سنة بمثل شكل الناي الحالي".
تشتهر آلة الناي بأنها الأقرب إلى الفطرة البشرية (اندبندنت عربية)
وأضاف "على رغم مرور آلاف السنين لا تزال آلة الناي تصنع من الخامات نفسها وبها عدد الثقوب نفسه، فلم يطرأ عليها تغيير في الشكل أو في طريقة العزف، ولكن التطور جاء في اختلاف الألحان التي يتم عزفها التي انتقلت من الألحان التي أبدعها المصري القديم للألحان العربية والكلاسيكية".
وتابع "الناي هي أقرب الآلات للفطرة البشرية، إذ إنها عبارة عن نبات به عمود مجوف ينفخ فيه بزاوية معينة لينتج منه أصوات طورها الإنسان لألحان مميزة على مدار آلاف السنين، وموجودة حالياً في كل الفرق الموسيقية بخاصة العربية، لأنه من أساسات التخت الشرقي، ولكن يمكن استخدامها أيضاً في الكونشرتو فهي تصلح لجميع أنواع الموسيقى، فالأوركسترا السيمفوني تضم آلة الناي وتعزف بها مقطوعات غربية تختلف كلياً عن الشرقي فالأمر يعتمد على مهارة العازف".
مراحل صناعة الناي
حتى يظهر الناي بشكله النهائي ونغماته المميزة التي تبدعها أنامل العازف يمر بمراحل متعددة منذ بداية الحصول على النبات في حاله الطبيعية مروراً بجميع المراحل التي يمر بها، التي تستمر لفترة طويلة تزيد على عام حتى يتحول إلى شكله النهائي ويكون جاهزاً للعزف عليه بشكل مثالي.
بالعودة لعبدالرحمن غانم فإن "الناي يصنع من نبات البوص أو الغاب أو القصب البري، فكلها تسميات للنبات نفسه ويوجد منه 15 فصيلة، ولكن صناعة الناي تعتمد على فصيلة واحدة منها، وينمو هذا النبات بشكل طبيعي من دون تدخل الإنسان، وهو من الفصيلة العقلية، فله عقل قصيرة يجب مراعاتها عند صناعة الناي، وينمو هذا النبات في مصر بأماكن متعددة كما ينتشر في دول البحر المتوسط".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن أخيراً قل وجوده نسبياً لأسباب ذات علاقة بتغير المناخ، مما دفع العازف غانم لأن يحاول الحصول على كميات إضافية منه من بعض الدول المحيطة التي يتوافر بها مثل تركيا وسوريا ولبنان وليبيا، لأنه ينمو في هذه الدول بسبب ملاءمة البيئة والمناخ.
وتمر صناعة الناي بمراحل متعددة فالنبات في البداية يكون أخضر، ويحتاج إلى نزع الأوراق الخارجية ومن ثم تركه ليجف لمدة عام ونصف عام فيتحول لونه إلى الأصفر المتعارف عليه، وبعدها يجري تحديد المقاسات الخاصة بالطول وعمود الهواء، ومن ثم تسخين النبات لمحاولة جعله يأخذ الشكل المستقيم.
ولاحقاً يقطع النبات بالطول المطلوب ويفتح عمود الهواء ثم يضبط موضع النفخ وتحديد أماكن الثقوب وثقبها ليدخل في مرحلته النهائية ويكون جاهزاً للاستخدام، فببساطة صناعة الناي لا تحتاج إلا إلى مجموعة من المعدات البسيطة، ولكنها تعتمد بالأساس على مهارة الصانع.
الناي وصاحبه
علاقة فريدة من نوعها تجمع بين الناي والعازف أو الصانع فالعزف على الآلات الموسيقية أو صناعتها لا بد أن يكون بالأساس هواية وشغف، حتى وإن تحولت لاحقاً لمهنة وسيظهر الفارق جلياً في نتاجها ما بين عشق أم مجرد أداء واجب.
لكن ما مواصفات عازف الناي وصانعه، هنا يوضح غانم "هذه الصناعة تحتاج إلى شخص محب له، لأنه لا بد أن يصنع بحب واهتمام لأن الصانع يتعامل بالأساس مع كائن حي كان يتنفس ويعيش وليس مادة صماء بلا روح، وينعكس هذا لاحقاً على علاقة الناي بصاحبه فهو يكون بمثابة صديق يحمله معه في كل مكان بخاصة مع سهولة حمله".
ومضى في حديثه، "عزف الناي هو اتحاد بين روح العازف وإحساسه وروح النبات فينتج منه الصوت الشجي الذي ليس له مثيل بين الآلات الموسيقية كافة، وفي حالتي جربت العزف على أكثر من آلة موسيقية، ولكني عشقت صوت الناي ودفعني هذا في البداية للسعي إلى معرفة طريقة صناعته".
تواجه صناعة الناي تحديات كبيرة في مقدمتها التغير المناخي (اندبندنت عربية)
وذكر أنه "بشكل عام صناعة الناي أصعب بكثير من آلات موسيقية كثيرة مثل العود أو الغيتار لأنها آلات لها مقاسات ثابتة ويقطع الخشب بناء عليها، أما في حال الناي فالصانع يتعامل مع نبات ليس له شكل ثابت، فالقادم من مناطق صحراوية يختلف عن القادم من مناطق زراعية، وكل قطعة يكون لها سمات وطبيعة تختلف عن الأخرى، حتى وإن كانت قادمة من البيئة نفسها، وهذا يتطلب صبراً واهتماماً ومهارة من الصانع في القدرة على التعامل مع كل واحدة على حدة وتنفيذ ناي بجودة عالية".
الناي الحزين
لفترات طويلة كانت هناك صورة شائعة عن الناي أنه آلة حزينة، وتكرر المشهد مرات عديدة في أعمال درامية بأن تكون الموسيقى التصويرية بآلة الناي في حال المشاهد الحزينة، أو أن يظهر البطل عازفاً للناي وحيداً في حالات الحزن، وذلك على رغم أنه مثل أية آلة موسيقية يمكن أن تصدر عنه نغمات مختلفة تناسب كل الحالات فما سر ارتباطه بالحزن؟
يشير غانم إلى أنه "في الفترة الأخيرة ازداد الوعي كثيراً بأهمية وقيمة الناي، وأصبح هناك اهتمام كبير باقتنائه وتعلمه، فالناي ليس حزيناً ولكنه صوته دافئ ذو شجن، فيمس القلب ويؤثر فيه، ولذلك يعتقد بعضهم بأنه حزين، ولكنه مثل أية آلة موسيقية يمكن أن يعزف الألحان كافة، ويمكن أن تصدر منه نغمات شديدة البهجة، ولكن الأمر هو أنه نمط لفترة في طويلة في قالب معين".
تحديات صناعة الناي
دخلت الناي خلال الفترة الأخيرة في معظم الفرق الموسيقية وأصبح لها دور كبير كواحدة من آلات النفخ في الحفلات والأوركسترات، مما يتطلب أن تظل صناعته بحالة جيدة، وأن يكون هناك استمرارية وأجيال متعاقبة تحمل سر صناعة الناي وتسعى إلى أن يكون دائماً حاضراً بقوة في أشكال الموسيقى كافة.
شق الناي طريقه إلى الأوركسترات العالمية وبات يتمتع بأشكال مختلفة (أ ف ب)
وتابع غانم "صناعة النايات قائمة على جهود فردية، وهذا بلا شك يمثل أزمة في استمرارها ويحتاج إلى جهود أجيال جديدة، فالصانع لا بد أن يقوم بها باهتمام وحب، وتحتاج إلى الصبر والخبرة، والصانع لا بد أن تكون لديه أذن موسيقية، ولكن ليس بالضرورة أن يكون عازفاً محترفاً، لأنه سيحتاج إلى اختبار الآلة والتعرف على أية مشكلات خلال مرحلة الصناعة، وتعليم الصناعة أيضاً يكون بجهود فردية من شخص لآخر، وهذا يمثل أزمة فكثير من الأجيال الجديدة ليس لديها صبر وترغب في الربح السريع، وهذا لا يتحقق تماماً مع مثل هذه الصناعات".
ويختم حديثه بالقول، "في السنوات الأخيرة ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أصبح هناك إقبال كبير من الأجانب على شراء الناي وتعلمه واستخدامه في أنواع مختلفة من الموسيقى الغربية، وهذا بلا شك تطور كبير ينبغي أن يستثمر حتى يحقق الناي الذي يعد واحد من أشهر الآلات الموسيقية المصرية والعربية انتشاراً ووجوداً في المحافل الموسيقية العالمية".