مع تنامي قدرات الذكاء الاصطناعي، يوحي مسار الأمور وكأننا قد نصل إلى مرحلة تحل فيها تقنياته محل الإنسان في مجالات عديدة، يستمر مطورو هذه التقنية في تقديم مزيد من التحديثات والتطبيقات التي تبهر العالم، وفي الوقت نفسه يطرح مزيد من علامات الاستفهام حول ما ينتظر الإنسان في الأيام المقبلة، هذه التطبيقات بدأت تنتشر في عالم الموسيقى وتثبت قدرة على التأليف الموسيقي والأغاني بدقة عالية، ما يعني تغييرات كبرى في صناعة الموسيقى في الأعوام المقبلة، كيف لا وقد شهدنا ظهور أعمال موسيقية بمستويات عالية من الدقة بالاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، جرى فيها استنساخ صوت الفنان الأصلي وموسيقاه، وآخرها أغنية المغنيين "دريك" و"ذا ويكند" التي انتشرت بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي وحققت أكثر من 8.5 مليون مشاهدة على "تيك توك". فهل التغيير الذي قد يحققه الذكاء الاصطناعي في صناعة الموسيقى سيسهم فعلاً في تطورها أم يجب التحضر لآثاره السلبية أيضاً، كما في قطاعات أخرى؟ وإلى أي مدى يمكن أن يحل الذكاء الاصطناعي محل الإبداع البشري في هذا المجال؟
لكل تطبيق ما يميزه في صناعة الموسيقى
أحد التطبيقات التي يشير إليها الخبير في التحول الرقمي بول سمعان "MusicLM" الذي قد يكون التطبيق الأهم في مجال الموسيقى، ما أن يصبح في متناول الكل قريباً، تعمل "غوغل" على تطويره حالياً، وليس متاحاً للكل بعد، بل تتوافر عينات على الإنترنت للمستخدمين تظهر ما يمكن تحقيقه من تحويل نص إلى عمل موسيقي بأسلوب معين.
أما أداة الذكاء الاصطناعي الثانية الأهم في هذا المجال، فهي "Synthesizer V Studio" الذي أتى بعد سنوات من التطوير والأبحاث ليحول أفكاراً موسيقية إلى أغنيات، فيمكن فيه تركيب كلمات الأغنية والصوت مع تغيير النغمة والسرعة للحصول على أغنية متكاملة مع التوزيع الموسيقي المرغوب، أما تطبيق "Landr" فيقترح عينات موسيقية عديدة مع أنماط عدة من النبض الموسيقي، ويمكن الاستفادة منها إلى حد كبير في التأليف الموسيقي، ومن التطبيقات الأكثر سهولة والمهمة التي يمكن الاعتماد عليها في هذا المجال "Eleven Lab"، وهو في متناول الكل مقابل اشتراك معين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سر الابتكار في عالم الذكاء الاصطناعي
في حديثه، يشير سمعان إلى أنه يمكن أن يستفيد المؤلفون الموسيقيون والعاملون في صناعة الموسيقى من هذه التطبيقات عبر أخذ الأفضل من كل منها ودمجها بأسلوب مبتكر وإبداعي، فيكون لكل أسلوبه الخاص ولمساته الفنية المميزة، هنا تبرز براعة كل مؤلف بطبيعة الحال، قد يزوده مثلاً "تشات جي بي تي" بكلمات ينطلق منها إلى تطبيق آخر للحصول على النغمة الموسيقية وغيرها من التطبيقات القادرة على استنساخ الصوت، كما حصل مع أغنية "دريك" و"ذا ويكند" Heart on my sleeve التي حققت انتشاراً واسعاً، كما لو كانت فعلاً لهما، نظراً للدقة العالية التي أنجزت فيها بالاعتماد على تقنيات مختلفة في عالم الذكاء الاصطناعي، فقد اعتمد فيها الإيقاع الموسيقي نفسه والأسلوب الخاص بهما، مع استنساخ للصوت في غاية الدقة، علماً أن الأمثلة في هذا المجال كثيرة وهي ليست التجربة الأولى ولن تكون الأخيرة حكماً، هذا ما يؤكد على ما تتركه تقنيات الذكاء الاصطناعي من أثر بارز في صناعة الموسيقى حالياً.
ومن المتوقع أن يكون من الممكن إنجاز أغنية متكاملة في الكلمات والموسيقى والإيقاع مع استنساخ لصوت الفنان وفيديو مصور في المستقبل القريب، علماً أن بدل الاشتراك لقاء استخدام هذه التطبيقات ليس مهماً في مقابل ما يمكن أن تحققه من إنجازات.
ماذا بشأن حقوق الملكية؟
لا يلغي التطور المتوقع في صناعة الموسيقى الهواجس المتعلقة بالشق القانوني، هل تعد الأغنية التي تصدر باستنساخ لصوت فنان مثلاً، خاصة به؟ وهل يمكن أن تكون هناك ملاحقة قانونية في حال عدم ذكر الفنان فيما يستنسخ صوته وأسلوبه الغنائي وموسيقاه؟ أسئلة كثيرة تطرح في هذا المجال وتكثر المشكلات حولها، والأخطر قد يكون في إساءة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الموسيقى، كما قد يحصل في مختلف القطاعات، فذلك يرتبط بمن يقف خلف هذه التقنيات ويستخدمها لغرض معين، حتى أنه يمكن لمن يعتمد عليها ويعمل على استنساخ صوت فنان أن يجعله يقول أي شيء عبر تركيب العبارات بحسب رغبته، ثمة خطورة كبرى في ذلك، خصوصاً من الصعب جداً على أي كان التمييز بين أغنية أنجزت بتقنيات الذكاء الاصطناعي وأخرى بصوت الفنان فعلاً.
لكن على رغم المخاطر التي قد تنتج من سوء استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في صناعة الموسيقى، يشدد سمعان على أهميتها لكل من يعمل في هذا المجال حالياً، فقد دخلت إلى حياة الكل في مختلف القطاعات، ولا يمكن التغاضي عنها، ومن الضروري استخدامها بالشكل الصحيح والاطلاع عليها والاعتماد عليها بشكل أو بآخر لمواكبة التطور، فيشكل هذا جزءاً لا يتجزأ من التطور المهني، تجنباً للبقاء في خانة تقليدية فيما يكون العالم في تطور على أن توضع في المرحلة المقبلة الضوابط القانونية التي يمكنها تنظيم هذه الأمور حتى تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي بأفضل شكل ممكن، ووفق الأصول القانونية والأخلاقية.
في غياب الإبداع
بعد أن غزت تقنيات الذكاء الاصطناعي القطاعات كافة وانعكس أثرها في العاملين في مختلف المجالات، يستمر الجدل بين المدافعين، وبين الرافضين لتبنيها بشكل مطلق ومن دون ضوابط. في صناعة الموسيقى أيضاً، يؤكد المؤلف الموسيقي فادي أبي هاشم أن الذكاء الاصطناعي بمختلف تقنياته، يبقى اصطناعياً ولا يمكن أن يحل يوماً محل الإنسان لأنه يفتقد إلى المشاعر والروح، "لن يكون للآلة روح في أي وقت من الأوقات، مهما تطورت، وستفتقد دوماً إلى الجانب الإنساني والعواطف، ومهما بلغ حد التطور في الذكاء الاصطناعي، سيبقى مبرمجاً في ما يقدمه، وتؤكد التجربة الأخطاء الكثيرة التي يمكن أن تقع فيها تقنيات الذكاء الاصطناعي، قد لا نعرف من الآن إلى أين يمكن أن تصل الأمور، سواء في الموسيقى أو في أي مجال آخر، لكن ما يمكن تأكيده أن الذكاء الاصطناعي وتقنياته لن تحل يوماً محل الإبداع البشري". صحيح أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تعطي احتمالات لأفكار قد تستخدم في مجال التأليف الموسيقي، لكنها بعيدة من الإبداع حتى اللحظة لأنه يبقى من خصائص الإنسان، وتعد التقنيات المبرمجة ممتازة في التحليل لكن تفتقد إلى الابتكار والأحاسيس، لذلك كمؤلف موسيقي، يعتبر أبي هاشم أن دوره لمس عواطف الناس وليس الاكتفاء بعزف الموسيقى أو تأليفها، ويتطلب ذلك لمسة فنية وحده الإنسان قادر على إضافتها، فإذا كانت الموسيقى تعكس حالة الفنان ومشاعره فهي تعكس بذلك موهبته الفعلية، فكيف لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تنجح في هذا المجال؟ لذلك، يمكن الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي في مكان ما في صناعة الموسيقى كإنجاز يستحق التقدير، لكن الشرط الأساس هو الاستثمار ضمن حدود وفي المكان الصحيح، حتى لا تُفقد السيطرة على الأمور ويخسر الإنسان كثيراً مما يميزه.