حينما تذكر كلمة المشربية تتبادر إلى الأذهان مشاهد شوارع القاهرة القديمة بتراثها المعماري المتميز الذي عكسته الفنون المختلفة، مثل لوحات المستشرقين وروايات نجيب محفوظ وأفلام السينما القديمة التي صورت أحداثاً تدور خلال تلك الحقب، فالمشربية مفردة أساسية في عمارة المنازل المصرية في عصور سابقة، وقد جمعت بين جمال الشكل ورؤية الفنان، وفي الوقت ذاته الوظائف التي تستخدم لأجلها، والتي كان من أهمها خلق حال من الخصوصية لسكان المنزل، إذ تستطيع النساء أن يتطلعن براحة إلى الطريق من دون أن يراهن المارة في الشوارع.
لكن كعادة فناني الحرف التراثية فإن الجانب الجمالي يطغى وربما يفوق الدور الوظيفي، لتتحول المشربيات إلى فن قائم بذاته، ويتم تطويره وإدخال عديد من العناصر عليه، ثم حلت الآلات محل الإنسان في كثير من خطوات العمل، لكنه ظل باقياً كرمز وشاهد على ثقافة فترات زمنية بعينها وأنماط عمارتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فنان المشربيات وخرط الأخشاب مجدي العدوي، الذي يمتد تاريخه في هذا المجال لأكثر من 45 عاماً يقول، لـ"اندبندنت عربية"، "خرط الأخشاب حرفة موجودة منذ عصر مصر القديمة، فقد وجدت أخشاب مخروطة بالفعل في الآثار المكتشفة من عصور مختلفة، ومع توالي الحقب التاريخية استمر خرط الخشب بأشكال متعددة وبشكل يعكس ثقافة كل مرحلة، فعلى سبيل المثال عرف العصر المسيحي في مصر خرط الأخشاب، وتزخر الكنائس والأديرة بنماذج عدة كان الاعتماد فيها على وحدات نباتية وحيوانية ممثلة لطابع الفن السائد خلال هذه المرحلة ومعبرة عنه".
ويضيف العدوي "لاحقاً في العصر الإسلامي انتشر فن خراطة الأخشاب بشكل كبير، لكنه اعتمد وحدات هندسية ونباتية تمثل الطابع الإسلامي المعروف للفنون، ويمكن القول إن العصر الإسلامي شهد ازدهاراً وتألقاً لهذه الحرفة بشكل كبير، إذ أبدعت أنامل الفنانين أعمالاً في غاية الروعة ما زال كثير منها باقياً ويمثل جزءاً من الطابع العام والتراث الثقافي لمصر خلال هذه المرحلة التاريخية، وتظهر في المنازل والمساجد والمباني الأثرية المختلفة".
المشربية جمال ووظيفة
لا تمثل المشربيات فقط شكلاً جمالياً أو واجهة تضاف إلى المباني المختلفة، لكن لها أكثر من وظيفة، كما أن لها أبعاداً تتعلق بترطيب الجو وتقليل درجة حرارة المنازل، وفي الوقت ذاته توزيع الضوء بشكل مثالي من خلال فتحاتها، فهي تجمع بين جمال الشكل وروعة الحرفة اليدوية، والوظيفة المنوطة بها.
يشير العدوى إلى أن "المشربية تشتق اسمها من فكرة أن واحدة من وظائفها وضع مياه (الشرب) لتبرد في القلل، إذ تسمح بدخول الهواء البارد من خلال فتحاتها، وفي قول آخر يطلق عليها (المشرفية)، حيث تشرف منها النساء على صحن البيت أو على الطريق من دون أن يراهن أحد، وجدير بالذكر أن هناك اختلافاً في الشكل بين كل منهما، فالمشربية تكون بارزة للخارج على واجهات المنازل، ويكون بها مكان يصلح لوضع القلل لتبرد المياه، بينما المشرفية لا يكون لها بروز، وغالباً ما تكون داخل المنازل وتطل على أفنيتها الداخلية".
ويضيف "هناك نماذج في غاية الجمال من المشربيات تزخر بها مصر، وبخاصة في مناطق القاهرة القديمة، مثل منطقة شارع المعز لدين الله الفاطمي، ومسجد أحمد بن طولون، وبيت الكريتلية المعروف باسم متحف جاير أندرسون، ومنازل مثل زينب خاتون وبيت الرزاز وبيت السناري، وغيرها كثير يعكس روح وثقافة العصر الذي يمثله".
مبادرات للحفاظ على التراث
مبادرات عدة تعنى بالحفاظ على الحرف التراثية وتوثيقها والعمل على إعادة إحيائها وتعليمها للأجيال الجديدة لتظل باقية كجزء من التراث الفني والثقافي، من بينها حرفة صناعة المشربية المصرية التي دعا بعض المهتمين إلى توثيقها ضمن قوائم التراث العالمي لمنظمة "اليونيسكو" باعتبارها جزءاً أصيلاً من التراث المصري.
يشير العدوي إلى أن "مصر هي أصل معظم الحرف اليدوية، حيث وجدت وعرفت منذ أقدم العصور، ووجدت دلائل ونماذج من هذه الحرف في عصور مختلفة، وانتقل كثير منها من مصر إلى كثير من الدول، لكن المشربية بمفهومها المعروف هي حرفة مصرية أصيلة متعارف عليها منذ عصور طويلة، وحتى الآن مع مرور الزمن وتغير الاستخدام فإن الطابع التقليدي للمشربيات ينبغي الحفاظ عليه لتظهر المشربية بالنسب والزخارف نفسها التي اعتمدتها المشربيات التراثية".
ويضيف "الحفاظ على الحرف التراثية بشكل عام، ومن بينها حرفة صناعة المشربية، يحتاج إلى تكاتف بين جهات متعددة، فحرفة خرط الأخشاب يتم تدريسها في مدارس التعليم الصناعي ويتعلمها الطلاب، لكن لا بد من العمل على تشغيل هؤلاء الشباب في هذا المجال فور تخرجهم، وليس تركهم ليتجهوا لمهن أخرى فتضيع مثل هذه الحرف، الأمر الثاني هو ضرورة أن يقدم فنانو هذه المهنة أنفسهم ورش عمل بالتعاون مع جهات مختلفة لتعليم وتدريب المهتمين بهذا المجال، وبالفعل قدمت مثل هذه الورش ولاقت إقبالاً واهتماماً من المهتمين بالحرف الفنية والحفاظ على التراث".