المسألة الفلسطينية: إنعاش أم انهيار؟

منذ 4 أيام 29

في حيِّنا بناية باسم مصر. تجاورها أخرى تسكنها عائلة إسرائيل وعائلة فلسطين، وبينهما نزاع ملكية. عائلة إسرائيل احتلت سابقاً من بناية مصر طابقاً. ثم حررته مصر وعقدتْ مع تلك العائلة اتفاقَ سلام يُرسِّخ هذا الوضع. الآن تريد عائلة إسرائيل مستقوية بالأمريكان أن تُخلي بنايتها من عائلة فلسطين، وأن تطردها إلى الطابق الذي حررته مصر سابقاً.

يعني هذا فعلياً إعادة احتلال بنايتنا، نحن المصريين، وانهيار الأساس الذي بنيت عليه اتفاقية السلام. من أجل هذا اجتمع المصريون حتى أنصار السلام منهم على اعتبار هذا التصرف - إن حدث - انقلاباً على «مكتسبات السلام»، وعودة إلى الوضع السابق له. هذا فضلاً عن جريمة تهجير شعب من أرضه. لا بد من التأكيد على هذه النقطة قبل أن أنتقل إلى حديث عائلي يخصنا نحن المصريين.

في جيم الشطرنج لا تبدأ الأزمة مع انحسار الخيارات، فكل حركة من البداية تؤدي إلى المكسب أو الخسارة. في الأزمة الحالية أعرف أن دخول ترمب على الخط أربك التوازنات، لكن هذا لم يعد مفاجئاً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. بوش هاجم العراق، وأوباما دعم الفوضى. لقد صار هذا جزءاً من الجيم يلزم التحسب له مبكراً.

وهذا أول دروسنا ونحن نتعامل مع الأزمة. لا بد من رصد تنامي التغيرات السياسية والثقافية في الولايات المتحدة وغيرها من القوى الفاعلة، والاستماع إلى الآراء حولها. السوشيال ميديا ليست بديلاً عن المقال النخبوي الجيد المطلع على العالم. تُجري الفرق الكبرى بعد المباريات ما يعرف بـpost mortem أو التحليل المتأخر بغرض اكتشاف الثغرات. لو طبقنا هذا على التعامل مع الشأن الفلسطيني الإسرائيلي سنجد أن الثغرة الأساسية كانت الصبر على طرف قدم خطاباً مضراً وانتهج سلوكاً سلبياً. تلقى أوامره من إيران ومحور الممانعة، ومن جماعة الإخوان المسلمين المعادية. بدأ حرباً أهلية أضعفت الفلسطينيين وشوهت قضيتهم، وطرد حركة فتح. ورغم كل هذا لم نحيده ولا قطعنا الصلة به. رهنا التحرك إلى الأمام في ملفات السلام والأمن بموافقته ونحن نعلم من لحظة ميلاده أن هدفه الأساسي تفجير احتمالات السلام. بل تبنى مثقفون وجهات إعلامية حججه حتى هيمنت على الرأي العام.

لا يعني هذا أن إسرائيل لم تتعنت في مفاوضات السلام، ولا وضعت عثرات أمام قيام دولة فلسطينية. فالعالم أدان ذلك. لكن العملية السياسية لها ضوابطها ومحدداتها. بإمكانك دائماً أن ترفض المعروض، لكن في الوقت نفسه لا تتوقف عن البناء على ما لديك، وعلى إظهار أنك على قدر المسؤولية. اللجوء إلى الإرهاب يقوي التشدد على الجانب الآخر. إسرائيل قدمت سابقاً رابين وبيريز وإيهود باراك، والآن اختفى منها هذا المعسكر، وقويت حجة الفريق المقابل، وكانت مرافعته بسيطة: هل تريدون إلى جواركم دولة تحكمها «حماس»؟! اقرأوا ميثاقهم. انظروا ماذا فعلوا بخصومهم من أبناء شعبهم.

الثغرة التالية عدم تطوير السلام سابقاً إلى مشاريع تربط مصالح أطراف عدة بديمومته. وبين مصر وإسرائيل من المصالح الاقتصادية والأمنية المحتملة ما لا يكفي المجال لحصره. وإن أضفنا إلى ذلك خطط السلام مع دول الخليج امتدت القائمة. والخريطة تظهر لنا تحركات القوى الإقليمية، تركيا موجودة في ليبيا، وتسعى إلى وراثة النفوذ الإيراني في سوريا؛ حدودنا الجنوبية ليست مستقرة، وسد النهضة يمثل تهديداً لا يستهان به؛ وميليشيات إيرانية تعبث بمصالحنا الاقتصادية من مدخل البحر الأحمر. أخشى أن يدفعنا إفراطنا في المحاذير إلى أن نسير نياماً إلى عزلة تدريجية عن المشاريع المستقبلية التنموية في المنطقة. لكنني على يقين أن في قلب أعتى الأزمات فوائد. والفائدة الأولى لهذه الأزمة - إن مرت على خير - أن الرأي العام شاهد بعينيه الغرض الرئيسي الذي تسعى إليه جماعات معروفة. قالوا من قبل إن فلسطين مجرد مسواك يستخدمونه لتحقيق غرضهم الرئيسي، والآن أثبتوا المقولة عملياً. يتمنون لو أصر ترمب على خطط التهجير، ويريدون تأجيج صدام بين مصر والولايات المتحدة؛ لأنها فرصتهم لتقديم أنفسهم بديلاً «براغماتياً» في السلطة قادراً على تنفيذ تلك الخطط وترويجها إلى جمهور «الحدود تراب». الرأي العام رأى أيضاً أن الدول المعتدلة هي التي تصون المصالح الوطنية، وليست دول الشعارات ولا جماعاتها. والفائدة الثالثة أننا جميعاً أدركنا إلى أي مدى يمكن لهذا الصراع - بشروطه الحالية وبموقع «حماس» منه - أن يضرنا.

تلتئم هذه الفوائد لتخلق أجواء مناسبة لطرح مستقبلي مختلف، يضمن حياة أفضل لكل الأطراف. ويرتكز مساره على ثلاث نقاط:

‫1 - إعلام يعزز خطاب السلام وأهميته للجميع، ويساعد الجمهور على فهم تعقيدات هذا الصراع.

‫2 - إخراج «حماس» من الصورة.

3 - ربط السلام بمصالح اقتصادية واستراتيجية.