يعرف علم المخطوطات بأنه درس الكتب المخطوطة باليد والكراريس والمجلدات كأشياء مادية إلى جانب ما يحويه من صناعة الأحبار والتوريق، ويعرف في شقه المادي باسم علم آثار الكتاب (Archaeology of Book)، وتعتبر إثيوبيا بما شهدته من عهود ذات قدر معتبر من المخطوطات، كدلالة على ثقافات متعاقبة شهدتها ضمن تاريخها البعيد.
ويعتبر العلماء المصادر المكتوبة عن إثيوبيا المسيحية القديمة أهم عنصر في التراث الثقافي والتاريخي لمنطقة شرق أفريقيا، إذ تطور في مراحل عدة ضمن التداخلات الحضارية.
المخطوطات القديمة
العالم الإثيوبي في علم المخطوطات أيوب أمباي يقول عن تاريخ المخطوطات الإثيوبية إن "إثيوبيا لديها تاريخ قديم في المخطوطات يمتد لمئات السنين، إذ كتبت مخطوطاتها في الأساس باللغة الجعزية، وهي لغة طقسية إثيوبية قديمة، والإنتاج المستمر لهذه المخطوطات والكتب ونشرها عبر القرون يتحدث عن تاريخ أدبي وديني طويل ومعقد، وتتميز المخطوطات الإثيوبية الأرثوذكسية بالزخرفة وببنائها الفريد، مستخدمة نوعاً من التجليد يختلف عن معظم المخطوطات الأوروبية في العصور الوسطى".
ويضيف أمباي "يقدر الخبراء الأثريون أن ما لا يقل عن 200 ألف مخطوطة من الألفية الماضية تضمها المكتبات والأرشيفات الرهبانية الأرثوذكسية الإثيوبية، وهذه المجموعات بما فيها من النصوص الكتابية والليتورجية وسجلات القداس والوثائق القانونية والكتابات التاريخية المحلية، شاهد على ثقافة مسيحية أفريقية ولدت في بلاد الحبشة بين القرن الأول إلى الرابع الميلادي، بحسب قول المؤرخين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتابع "الوثائق الأقدم والأهم من بين أرشيف المخطوطات الأرثوذكسية هي الأناجيل الأربعة، واستخدمت في طباعتها 250 جلد خروف، أعدها الحرفيون الإثيوبيون القدماء الماهرون لتصلح ورقاً يكتب فيه العهد الجديد من الكتاب المقدس، وعلى رغم قدمها إلا أن الأوراق الجلدية بيضاء كأنها ورق فعلي وإن اصفرت بعض أطرافها، وبدت النقوش باللغتين الجعزية والأمهرية التي تزينها إلى جانب صور بأحبار ملونة لقسيسين، وتبدو المخطوطات بما تحمله من لون وحبر كأنها خرجت لتوها من مطبعة حديثة".
ويشير أمباي إلى أنه على رغم القيود المفروضة على المخطوطات الإثيوبية إلا أنها وصلت إلى أوروبا في وقت باكر قبل القرن الـ 15 عبر مصر، والحجاج الإثيوبيين إلى الأراضي المقدسة في بيت المقدس، ومن خلال أعضاء دير القديس ستيفن الحبشي في روما، وأسهم في ذلك الرحالة والمبشرون والعسكريون والعلماء، وتحوي المجموعات الشرقية في جميع المكتبات الأوروبية المهمة تقريباً على مواد إثيوبية، وكذلك في أميركا الشمالية بالجامعة الكاثوليكية ومكتبة الكونغرس وجامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس وبرينستون وجامعة هوارد".
بؤرة التاريخ
يقول المؤرخ الإثيوبي ساهيد أديجوموبي في كتابه "تاريخ إثيوبيا" إن "المجتمع الحبشي دخل بؤرة التاريخ من خلال كتابات كهنته، فمنذ نهاية القرن الـ 13 ظل الفن التقليدي لإثيوبيا المسيحية مجهولاً خارج حدودها وحتى زمن قريب، وأول ما عرف هو المنحوتات الصخرية في شمال البلاد، وهناك كم هائل من المخطوطات والجداريات الكنسية والرسومات على الأخشاب، وتصور الأيقونات الحبشة طيفاً واسعاً من الصور المقدسة التي تستخدم في أغراض إيمانية، سواء كتعويذات لها قدرة درء الشرور أو جلب الحظ، أو كجزء مهم من الوفاء بالنذور تعبيراً عن الرغبة في الولاء لقديس معين أو للسيدة العذراء مريم".
ويضيف "خلال القرنين الـ 17 والـ 18 انتشرت القلائد ذات الوجهين المرسومة أو المحفورة، فمنذ القرن السابع كانت الرسومات الجدارية المرسومة تصور في الغالب العذراء مريم والقديسين في أوضاع حية كأنها ترى وتتحرك وتتكلم وتشفي المرضى وتحمي الضعيف، كما تكشف الرسومات والمخطوطات التأثر بالعالمين الشرقي والغربي بما فيهما من ثقافات بيزنطية ويونانية وقبطية ونوبية وأرمنية، وعلى رغم أن الصور التوضيحية للمخطوطات قد بدأت في الظهور منذ القرن الـ 14 إلا أن التطورات التي حدثت بين القرنين الـ 15 والـ 18 بما فيها اكتشاف طرق بحرية جديدة، ساعدت في نمو الفن الإثيوبي".
هرر تتصدر
يقول المتخصص في علم المخطوطات ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة أديس أبابا حسن محمد كاو عن المخطوطات المكتوبة باللغة العربية إن "معظمها محفوظة لدى أفراد إلى جانب مجموعات أخرى تحتفظ بها المؤسسات الحكومية المهتمة والمسؤولة عن حفظ التراث مثل وكالة الأرشيف والمكتبة الوطنية الإثيوبية والمتاحف الوطنية في أديس أبابا والأقاليم، إلى جانب جامعة أديس أبابا التي تحتفظ حالياً بما لا يقل عن 300 مخطوطة عربية وأعجمية".
ويصف علم المخطوطات بأنه "يُعنى بدرس المكتوب باليد وغير المطبوع، ويعرف في اللغة الإنجليزية بـ Codicology، ويشمل درس الكتب المخطوطة والكراريس والأسفار القديمة كأشياء مادية سواء من مادة ورقية أو غيرها، إلى جانب طريقة ترتيب المخطوطة".
ويشير كاو إلى أن مدينة هرر تتصدر المناطق الإثيوبية في ما تختزنه من مخطوطات نادرة مثل المصاحف التراثية والمدونات، وبعدها إقليم أوروميا بما يمثله من بعد ثقافي إسلامي، كما أن إقليم أمهرة يمثل أهمية، بخاصة بما يضمه من تراثيات مسيحية من ضمنها مخطوطات يحتفظ بها كهنة الكنيسة والجهات الثقافية في الإقليم".
لا تقدر بثمن
وعن أهمية علم المخطوطات في تطور الإنسان يقول كاو "تكمن أهميته في ما تختزنه المخطوطات من تراث ومخلفات تركها سابقون في مجالات عدة من العلوم الإنسانية والحيوية إلى جانب ما شهدته العصور المختلفة من تطور في أدوات الكتابة والأحبار والطرق المتوارثة في الآثار المتعلقة بثقافات الشعوب"، مشيراً إلى أن "الغرب عندما جمع ثروات الشعوب التي استعمرها اهتم بالمخطوطات كثروات لا تقدر بثمن".
وعن الاهتمام العلمي بالمخطوطات يوضح "بدأت جامعة أديس أبابا جمع المخطوطات العربية والأعجمية منذ سبعينيات القرن الماضي في معهد الدراسات الإثيوبية، وأما عن دراسات المخطوطات كعلم فبدأته الجامعة عام 2005 على مستوى الماجستير في كلية العلوم الإنسانية، قسم علم اللغة".
ويتابع "يوجد الآن في جامعة أديس أبابا قسم يهتم بالمخطوطات المكتوبة باللغتين الجعزية والعربية هو قسم الأرشيف الجامعي، وهناك قسم ثان يهتم بدرس المخطوطات بشقيها الجعزي والعربي في قسم فقه اللغة".
ينظر كاو إلى المخطوطات العربية باعتبارها دلالة على قيمة التراث العربي الإسلامي، وعلى ما لعبته الحضارة العربية من دور مؤثر في إثيوبيا، ويشير إلى منطقة شرق أفريقيا على وجه الخصوص باحتضانها كتابة المخطوطات في بيئات الممالك الإسلامية القديمة، وأولها مملكة شوى التي تلتها ممالك أخرى تعرف لدى المؤرخين بممالك الطراز الإسلامي.
وعن المشكلات التي تواجه المخطوطات يشير أيوب أمباي إلى أخطار ظروف التخزين والحرائق والسرقات قائلاً إن "إثيوبيا درجت على الاحتفاظ بالمخطوطات ذات التراث الديني في مجموعات حول العالم، بما في ذلك مجموعة مكتبة Beinecke Rare Book & Manuscript Library.
ويتابع "شهد عهد الإمبراطور منيليك عام 1908 أول عرض للأرشيف الإثيوبي بشكله الحديث، وذلك بإنشائه قسم جمع السجلات من المؤسسات والوزارات، وعلى مستوى ثان وبدعم من منحة ERC قام فريق علمي بقيادة البروفيسور نوسنيتسين برحلات ميدانية عدة إلى شمال إثيوبيا لتحديد أهم مجموعات المخطوطات وإنشاء قوائم جرد وعمل نسخ رقمية، وزار الباحثون أكثر من 100 دير وكنيسة، وعدد منها يضم مكتبات كبيرة، وتمكنوا من رقمنة أكثر من 2000 مخطوطة، وقاموا بالتصنيف والفهرسة العلمية، إضافة إلى ذلك تم تنفيذ برنامج فريد للحفظ".