بفتح القاف والسين يعرف القسم بأنه اليمين، فيقال أقسم أو أدى اليمين، وسمي باسم يمين اليد لأنهم كانوا يتماسحون بأيمانهم فيتحالفون، ويعتبر اليمين من الوسائل المعروفة قديماً في الإثبات، واستخدم في القضايا المدنية والجنائية ولم يلجأ إليها إلا في حالة عدم وجود أدلة إثبات قانونية.
كانت وسيلة اليمين ذات طابع ديني منذ العهد السومري إذ كانت تؤدى باسم الملك أو الآلهة ثم أصبحت باسم الملك فقط، أما الحنث في اليمين فقد كان من يحلف يميناً كاذباً يعتبر متجنياً بحق الملك وتنتظره عقوبة دنيوية بعد أن كانت في الآخرة.
القسم عبر الثقافات
وعرف القسم منذ فجر التاريخ، فقد أقسم محاربو القبائل الجرمانية والرومان واليونانيون بأسلحتهم وقوفاً أمام "إله الحرب" لضمان ولائهم، وعرفته الحضارة السومرية في العراق بالقرن الرابع قبل الميلاد والمصريون القدماء.
أما أول من عرفه في الغرب فهي بريطانيا بحدود القرن التاسع، إذ كان القسم على الإنجيل إجبارياً لأداء الوظائف الحكومية وعندما استقلت عنها أميركا عام 1776 أخذ مؤسسوها ما يناسبهم من تقاليد البلد الأم، فالدستور الأميركي نص على هذا القسم، ولكن من دون استخدام الإنجيل أو أي كتاب مقدس أو غير مقدس، بل إن المادة السادسة منه تضمنت عدم اشتراط الدين لشغل أي منصب رسمي عام.
لكن وضع اليد على الإنجيل مع أداء القسم في أميركا ما هو إلا تقليد بدأه الرئيس جورج واشنطن، بينما اختار الرئيسان تيدي روزفلت وجون كوينسي عدم فعل ذلك، وأقسم ليندون جونسون اليمين داخل قاعدة عسكرية خلفاً لجون كيندي يوم اغتياله على كتاب أدعية لأنه لم تتوفر نسخة من الإنجيل في تلك الظروف الطارئة، كما أن أي رئيس يستطيع أن يختار بين قول أقسم أو أقر وكلتا الصيغتين قانونيتان سواء ذكر الله أو لم يذكر.
ومثل هذه الصيغ الاختيارية تبنتها أستراليا وجنوب أفريقيا، ولكن في تايوان يؤدي القسم أمام صورة مؤسس الدولة "سن يات سون"، وهناك نماذج أخرى ظهرت منذ وقت قريب، ففي عام 2018 أصبح رئيس الوزراء الإسباني المنتخب بيدرو سانشيز أول ملحد يشغل هذا المنصب بتاريخ البلاد ورفض تأدية اليمين على كتاب الإنجيل وطالب بإبعاد الصلبان خلال مراسم التنصيب الملكي بمدريد واعداً بأداء واجباته استرشاداً بالشرف والضمير والبقاء موالياً للملك والدفاع عن الدستور الإسباني.
علامة اليد اليمنى
لا يخفى أن اليمين القانونية أو الدستورية هو إقرار يلزم به الشخص نفسه قبل تأدية واجباته الموكلة له في منصبه، وعادة ما يكون منصباً في الحكومة أو داخل هيئة دينية، كما يشترط القيام به أحياناً من قبل موظفي المنظمات الأخرى. وغالباً ما تنص القوانين الوطنية على هذا الشرط قبل ممارسة مهام المنصب، وقد يجري اليمين في مراسيم الافتتاح كالجلسات الافتتاحية للبرلمانات أو لدى التتويج أو أي مراسيم أخرى ترتبط بتولي المنصب.
وقد تختلف الأيمان الخاصة بالمنصب منها ما يكون الولاء للدستور أو منصب قانوني آخر أو لشخص أو أي صاحب منصب آخر، على سبيل المثال اليمين لدعم دستور الدولة أو يمين الولاء للملك، ووفقاً لقوانين الدولة يمكن أن يعد اليمين الدستورية خيانة أو جريمة عظمى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأداء اليمين طقوس شبه موحدة، فاليد اليمنى هي الفيصل، إذ ترفع بموازاة الجسد في بعض الثقافات أو أعلى من الرأس في أخرى، ومنهم من يضعونها على الكتاب المقسم عليه وآخرون يضعونها على قلوبهم.
ولكن هناك مراجع تقول إن لحضارات أرض الرافدين تفسير البداية، بخاصة في عهد الملك البابلي حمورابي وهو سادس ملوك بابل، ففي إحدى المواد المكتوبة في شريعته الشهيرة عن عقوبة من يغش الحليب والعسل والزيت، إذ تكوى باطن يده اليمنى بقضيب معدني محمي على النار بشكل (×)، وهذه العلامة كانت كافية ليعرف كل المتعاملين مع هذا الشخص بأنه غير صادق وغشاش، فمن رفع اليد يتبين أن الشخص الذي يؤدي القسم له سوابق، وإليها يعزى بدء تقليد رفع اليد اليمنى أثناء القسم في المحكمة واستمرارها حتى هذا اليوم.
وفي مراجع أخرى يقال، إنه يعتقد أن هذه الحركة تعود إلى العصور الوسطى عندما كانت أوروبا تعيش عصور الإقطاع والجهل والظلام، فكان وقتها إذا دخل شخص معين السجن يتم وشمه على يده اليمنى ليعرف الجميع أنه من أرباب السوابق، ولذلك عندما كان يدعى أي شخص للشهادة كان يطلب منه أن يرفع يده للمحكمة حتى يتبين لها أنه شخص يمكن أن تقبل شهادته وأنه ليس من أرباب السوابق.
الالتزام
وعبر التاريخ نتج من أداء اليمين ما يترتب على حالفها من التعهد والالتزام، سواء أداها طبيب أو محام أو رئيس دولة أو أحد أعضاء الحكومة بمفرده كان أو الإدلاء جماعياً، فاليمين تولد إحساساً وجدانياً لدى المقسم، وتدخل في شعور الرغبة بالاستقامة والرهبة من عواقب التخاذل أو الانحراف باستخدام السلطة، ولذلك ورد النص على النطق باليمين علناً ووجوبياً.
فأداء القسم فيه نقطتان أساسيتان، فهو يعطي الثقة للناس، كما يعتبر تعهداً بتنفيذ الالتزامات، فالشعب التزم وأعطى صوته مثلاً للمرشح سواء كان رئيس دولة أو غيره، وفي الوقت نفسه لم يعرفوا نياته، لذلك فلكي يكشف عن مكنون سره عليه الالتزام وكشف تلك الثقة من خلال القسم، وعندها يصبح القسم إحدى الإمارات وليس كالبينة في القضاء، كما يقول المتخصص حيدر السهلاني في كتابه فقه التمثيل النيابي، مضيفاً "فتكون تلك الأمارات كاشفة عن ذلك الالتزام".
وهناك كثر يتساءلون هل يمكن مقاضاة صاحب المنصب سواء كان رئيس دولة أو نائباً أو غيره في حالة نكثه باليمين التي أقسمها؟ والجواب على ذلك بحسب دراسة قانونية لعلي العكيلي، أنه "لم يحدث أن تمت محاسبة أي رئيس أو نائب أو عضو برلمان عن نكوثه باليمين، كما لم يقم أي عضو بالنكوث عن أداء اليمين الدستورية، ولكن يحاسب عنها بعد رفع الحصانة البرلمانية عن العضو أو غيره أو في جريمة الحنث في اليمين الدستورية بالنسبة إلى الرئيس بعد إدانته".
لذلك فقد عرف أن لليمين قيمية تاريخية مستمدة من إيمان الشعوب بأن على الإنسان أن يكون صادقاً وباراً بقسمه ووفياً لتعهده مهما كانت أفكاره ومعتقداته، وبخاصة إذا كان الحالف ممن أنيط بهم أمر تولي السلطة ومقدرات البلاد وحياة البشر.