"العلمين"... الوجه الآخر للمدينة المصرية

منذ 1 سنة 117

سطع نجم مدينة العلمين الواقعة على الساحل الشمالي الغربي لمصر خلال أشهر  صيف العام الحالي عبر فعاليات متنوعة أقيمت ضمن المهرجان الذي نظم فيها وعرف باسم "العالم علمين"، كما تصدر اسمها وسائل الإعلام المختلفة مع زيارة كثير من الملوك والرؤساء لمصر خلال الفترة الأخيرة واستقبالهم في المدينة التي تسير بخطى ثابتة لتكون واحدة من المدن الكبرى بالبلاد.

المدينة التي تبعد نحو 104 كيلو مترات عن الإسكندرية (شمال القاهرة) اشتهرت بالجانب السياحي والترفيهي وبالمهرجانات والفعاليات المختلفة، وهو ما سلط الضوء عليها بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة، إلا أن للمدينة وجهاً آخر يتمثل في تاريخها العريق، فهي تعود للعصر الروماني في مصر، إذ كانت مدينة كبيرة وأحد الموانئ الرئيسة التي ترسل عن طريقها البضائع إلى أوروبا وآسيا الصغرى، إذ كان تمتد فيها الزراعة وتتميز بصناعات متعددة أشهرها صناعة الفخار.

الساحل الشمالي الغربي لمصر له جذور تاريخية فهو الطريق الذي سلكه الإسكندر الأكبر لمعبد الإله أمون في سيوة، كما كان درب الحجيج القادمين من شمال أفريقيا متجهين إلى مكة، إذ كانوا يقطعونه متلمسين لآبار المياه ليتزودوا منها خلال الرحلة الشاقة.

العلمين، لغة، مثنى (علم) بمعنى الجبل، وتعني الجبلين، وساعدتها طبيعتها الجغرافية في أن تكون مسرحاً لواحدة من أهم معارك الحرب العالمية الثانية، فالبحر من ناحية ومنخفض القطارة من الأخرى ومساحات ممتدة من المستنقعات التي لا تستطيع الجيوش السير فيها، مما كان واحداً من أهم عوامل انتصار القوات البريطانية في معركة العلمين الشهيرة.

آثار يونانية رومانية

تضم المدينة أيضاً آثاراً تعود للحقبة اليونانية الرومانية، ففيها جبانة وحي سكني وحمام روماني بمنطقة مارينا، مما دفع وزارة الآثار المصرية إلى إعلان مشروع متكامل لترميمهما تمهيداً لفتحها للزيارة أمام الجمهور لتشكل بهذا إضافة للمدينة بحيث لن تقتصر على السياحة الترفيهية، وإنما سيكون أمام الزائر فرصة للتوجه لمواقع أثرية تاريخية.

عن تاريخ مدينة العلمين يقول كبير الأثريين بإدارة الآثار الغارقة محمد مصطفى لـ"اندبندنت عربية"، المنطقة الواقعة ما بين الإسكندرية في مصر ومدينة قورينا الليبية وتشمل الساحل الشمالي الغربي بأكمله كانت قديماً بساتين وحدائق غناء طبقاً للمقريزي، ومع توالى العصور ضربها الجفاف فقل فيها السكن والزراعة.

4.jpg

يضيف "خلال العهد اليوناني الروماني في مصر كانت هذه المنطقة عامرة ويسكنها الأغنياء وبها مرافئ للسفن وكانت يطلق عليها لوكاسيس وخلال فترة القرن الثاني والثالث الميلادي كانت شديدة الازدهار، وقيل إنها في القرن السابع الميلادي كان بها واحدة من الإبراشيات التي تعود للدولة الرومانية، وفي عصور لاحقة كان البدو يطلقون على هذه المنطقة اسم البحرين بسبب وجود الجونة، وهي بحيرة صغيرة لها فتحة أو أكثر على البحر والخديوي عباس حلمي الثاني هو من أول من أطلق عليها اسم العلمين".

ويتابع "أنشأ الرومان الموانئ والمدن في هذا الموقع تحديداً بسبب أنه كان سلة غذاء لروما فكانت يزرع فيه القمح والعنب والزيتون، وبالتالي وجدت صناعات أهمها صناعة الفخار لحفظ المنتجات التي تقوم على هذه المحاصيل مثل النبيذ والزيوت وكانت موقعاً مثالياً للموانئ بسبب وجود أكثر من جونة يمكن أن تنتظر فيها السفن أثناء فترات العواصف الشديدة، في الوقت ذاته خلال هذه الفترة لم تكن السفن تستطيع تخزين كميات كبيرة من المياه فكانت ترسو بالمنطقة للتزود بالطعام والمياه وشراء البضائع المتوفرة في المدينة، وهو ما وثقه دليل أثري عثر عليه بها يعود تاريخه للقرن الرابع قبل الميلاد، ويكشف عن مراكز المياه والمؤن التي يتزود منها البحارة والمسافرون".

السفينة الغارقة

خلال الفترة الماضية أعلنت وزارة الآثار المصرية الكشف عن بقايا سفينة غارقة في العلمين يرجعه تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد باعتبار المنطقة كانت ميناء مهماً خلال هذه الفترة.

يقول عبدالمجيد "بعد عمل مسح مبدئي فالمرجح هو أن هذه السفينة اصطدمت بصخرة كبيرة في طريقها باعتبار أن مستوى البحر كان مرتفعاً عن الوقت الحالي وكان هذا سبب غرقها، ووجد فيها عدد كبير من الأنفورات (الأواني الفخارية) تعود للقرن الرابع قبل الميلاد، والأرجح أن هذه السفينة كانت قادمة من رودس التي كان هناك تبادل تجاري كبير بينها وبين مصر خلال هذه الفترة مع العلم أنها كانت تحت السيطرة المصرية خلال فترة القرن الثالث قبل الميلاد".

يضيف الأثري "هذه المنطقة ستحتاج إلى مسح شامل بالأجهزة الجيوفيزيقية التي غالباً ستقود لمزيد من الاكتشافات، ومن المتوقع العثور على سفن تعود لفترة الحرب العالمية الثانية ستمثل إضافة كبيرة لدراسة هذه الحقبة. ومستقبلاً يمكن أن ينظم الأمر بحيث تصبح الآثار الغارقة واحدة من عوامل الجذب السياحي في العلمين، سواء بالغوص أو استخدام القوارب ذات القاع الزجاجي.

معركة العلمين

حينما يذكر اسم مدينة العلمين فإن الحدث الأبرز الذي يتجسد هو الموقعة الشهيرة التي حدثت إبان الحرب العالمية الثانية وعرفت باسم "معركة العلمين".

يقول أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر إسلام عاصم، عانت مصر خلال الحرب العالمية الأولى كثيراً، وتحديداً مدينة الإسكندرية. وفي الحرب العالمية الثانية كان التأثير أشد إذ وقعت معاهدة 1936 التي تلزم مصر بالدفاع المشترك وبالتالي انخرطت البلاد في تبعات الحرب على رغم محاولات إلغاء هذه المعاهدة باعتبار أن الإنجليز كانوا مسيطرين على السياسة ولنا في واقعة قصر عابدين عام 1942 دليل عندما حاصروا القصر بالمدافع لتعيين النحاس باشا رئيساً للوزراء فكانت الحكومة المصرية لا بد أن تكون موالية تماماً لبريطانيا التي كانت ضمن قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يضيف معركة العلمين كانت في وقت التفوق فيه لقوات المحور خصوصاً في شمال أفريقيا، فالقوات الإيطالية استطاعت أن تدحر قوات الحلفاء بقيادة بريطانيا التي لاحقاً تمكنت من شن هجوم قوي على الأولى، مما استدعى تدخل القوات الألمانية ليكون هناك كر وفر بالمنطقة الواقعة بين تونس وليبيا لتدخل بعدها قوات المحور لمصر، ولكن مونتغمري قائد الجيش البريطاني استطاع أن يتحصن في العلمين التي ساعدته جغرافيتها وبدأت المناوشات واستنزف ذخيرة قوات المحور بقيادة روميل حتى جاءت المدافع كمعونة أميركية لتشتد المعركة ويتراجع الألمان غرباً خارج مصر بعد هزيمتهم في العلمين التي كانت بداية النهاية للحرب العالمية الثانية، لأنها أظهرت سيطرة بريطانيا على جنوب البحر المتوسط مما يعني السيطرة على الجانب البحري.

مقابر الكومنولث

انتهت الحرب فاز من فاز، وخسر من خسر، ولم يدفع الثمن إلا أولئك الذين دفع بهم إلى أتون المعارك المشتعلة في أماكن بعيدة من أوطانهم جمعتهم كساحات للقتال والمواجهة لينتهي الأمر بأن تكون الأرض نفسها مثوى أخيراً للمقاتلين من الجانبين وهو ما حدث بالفعل في العلمين.

يوضح أستاذ التاريخ الحديث، مات كثير من الجانبين في الحرب وبعد أن كانت المدينة ساحة معركة أصبحت عنواناً للسلام بتحولها إلى مرقد للمقاتلين الذين دفعوا الثمن الباهظ للحرب، إذ حصرت كل من ألمانيا وإيطاليا واليونان ضحاياها وأنشئت لهم مقابر تخليداً لذكراهم، إضافة إلى مقابر الكومنولث التي تضم كل من حارب تحت التاج البريطاني. كما تعاونت القوات التي كانت متحاربة وأنشأوا متحف العلمين الذي بني بمبادرة من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ويضم قاعة عامة وقاعة لكل دولة التي شاركت في الحرب، إضافة إلى آليات عسكرية وملابس للجنود المشاركين في الحرب ووثائق وصور توثق هذه المرحلة".

يضيف "منذ سنوات طويلة يتم كل عام احتفال في العلمين، وتأتي وفود رسمية وأسر للضحايا للمشاركة فيه وتعتبر مقابر الكومنولث أكبرها، وما يميزها أن بها شواهد لقبور مسيحية ويهودية وإسلامية تعود للهنود الذين حاربوا ضمن الجيش البريطاني، وكل مقابر الكومنولث بهذا المفهوم والمقابر الموجودة في العلمين ليست الوحيدة في مصر فهناك أخرى في الإسكندرية وبورسعيد".

يوضح عاصم، "المقابر الألمانية صممت على طراز أن كل مدينة ألمانية لها تابوت يمثلها، دفن تحته الراحلون الذين ينتمون إليها، كما أن نظيرتها الإيطالية من أجمل المقابر هناك وصممت بحيث يقطع الزائر طريقاً طويلاً حتى يصل إلى الداخل ليشعر بمعاناة هؤلاء الجنود الذين رحلوا في الحرب، ويميزها وجود مسجد صغير في بدايتها مدفون به عدد من الليبيين المسلمين الذين شاركوا في القتال تحت راية إيطاليا".

تنمية الساحل الشمالي الغربي

ما يطلق عليه الساحل الشمالي في مصر يمتد في المنطقة غرب الإسكندرية وصولاً إلى السلوم على الحدود المصرية - الليبية، بدأ هذا التوصيف يظهر منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي فبعد أن كانت الإسكندرية هي المصيف الرئيس للمصريين على مدار عشرات السنوات بدأ المصطافون في التوجه إلى الساحل الشمالي مع بداية إعمارها أواخر الثمانينيات بإنشاء القرى السياحية الموجودة على أول طريق الساحل الشمالي وأشهرها مراقيا ومرابيلا.

 ومع مطلع التسعينيات امتد العمران غرباً بإنشاء القرى السياحية تباعاً وصولا إلى مارينا في "الكيلو 90" غرب الإسكندرية، التي عدت لفترة طويلة درة قرى الساحل الشمالي والمكان الذي يرتاده الأثرياء بعكس بقية القرى التي كان يتوجه إليها الطبقة المتوسطة.

 مع السنوات امتد العمران غرباً ليذهب عن مارينا بريقها وتظهر قرى سياحية جديدة أصبحت وجهة الأثرياء بالكلفة العالية جداً للإقامة فيها سواء في الفنادق أو استئجار الشاليهات.

منذ بداية إنشاء الساحل الشمالي وحتى سنوات قليلة كانت منطقة العلمين مهجورة ولا تحظى بالاهتمام الكافي لأسباب متعددة، كان بينها الألغام التي زرعت خلال فترة الحرب العالمية وجرت محادثات كثيرة للعمل على إزالتها لم تسفر عن شيء إلى أن تبنت مصر مشروع إزالة كثير منها، إذ شكلت على مدار سنوات طويلة مضت عائقاً كبيراً أمام عمليات التنمية في المنطقة.

مدن الجيل الرابع

في مارس (آذار) 2018 وضع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حجر الأساس لإنشاء مدينة العلمين الجديدة على أحدث طراز معماري كمدينة متكاملة تعمل طول العام وليس فقط خلال فترة الصيف مثل بقية منطقة الساحل الشمالي التي كان هذا واحداً من أهم الانتقادات الموجهة إليها هو أنها مغلقة طوال العام، ولا تدب فيها الحياة إلا خلال أشهر الصيف مما يجعلها بقية أشهر السنة تفتقر إلى الخدمات باعتبار أن أغلب العمالة فيها موسمية.

اثار+غارقة.jpg

تم الكشف عن أثار غارقة تعود إلى عصور ما قبل الميلاد (اندبندنت عربية)

تعد مدينة العلمين الجديدة واحدة من عدة مدن يطلق عليها في مصر مدن الجيل الرابع التي أنشئت وفق معايير عالمية لتحقيق التوسع العمراني المستدام.

وعن نقاط القوة التي تميز العلمين وتؤهلها لأن تكون مدينة عالمية يقول أستاذ التخطيط العمراني بجامعة القاهرة عباس الزعفراني، الساحل الشمالي الغربي بشكل عام له مميزات عديدة أهمها طقسه المعتدل طوال العام وقربه من القاهرة والإسكندرية ومن بداية الكيلو 21 تقريباً ومياه البحر شديدة النقاء ويميزها وجود طيات صخرية ينتج منها بحيرات طبيعية تتكون بالطبوغرافيا الطبيعية للمكان وتكون مناطق آمنة للسباحة والرياضات المائية مثل منطقة مارينا ورأس الحكمة وسيدي عبدالرحمن، كما أن هناك ميناء في المنطقة من المرتقب أن ينافس ميناء الإسكندرية.

يضيف "يميز العلمين أنها مدينة وليست قرية سياحية مغلقة ولا يجب الاعتماد فيها على الاقتصاد أحادي الجانب مثل السياحة، ولكن يجب توطين أنشطة اقتصادية متنوعة، فهي فرصة واعدة للاستثمار لعوامل متعددة على رأسها قرب المسافة وتوفر نمط حياة يصلح للأوروبيين، وفي الوقت ذاته يمكن أن تكون مقر إقامة لكثير من الأجانب، خصوصاً المتقاعدين. فالطقس حتى في ذروة الشتاء لا يقارن بأوروبا، وفي الوقت ذاته الحياة أرخص بكثير وتتوافر الخدمات كافة باعتبار وجود  كثير من العمالة من المحافظات المجاورة".

يتابع "المدينة أيضاً بها خدمات قائمة بالفعل وطرق ممهدة ومطار في منطقة الساحل الشمالي، وهي مرشحة بقوة للتحول لمدينة مليونية وفرصة الامتداد فيها واسعة، ولكن هناك أشياء ينبغي مراعاتها مثل توفير المساكن للطبقات كافة، ومن بينها العمال ومقدمو الخدمات بأسعار مناسبة حتى لا تتكون مجتمعات عشوائية وغير منظمة حولها. كما أن إنشاء الجامعات ووجود طلاب ودارسين سيكون عاملاً رئيساً في وجود مجتمع متكامل ومحفز لكثير من المراكز البحثية على الوجود في المنطقة، كما أنه سيجعل هناك حياة طوال فترة الشتاء.