من المؤكد أنكم جميعاً تصادفون العلامات التصويرية بشكل شبه يومي، لكن هل تساءلتم يوماً كيف نشأ نظام العلامات هذا وكيف تطور؟
يلخص الكاتب كولن سالتر أهمية العلامات التصويرية في مقدمة كتابه "100 رمز غير العالم" بالقول "تحمل الرموز معاني ومفاهيم تفوق شكلها الظاهر، وحتى الرموز الشائعة التي نصادفها يومياً، تجسد مفاهيم وتوجيهات يأمل مصمموها في أن تصل إلينا من دون الحاجة إلى شرح مفصل".
من الناحية التعريفية، العلامات التصويرية هي عبارة عن رسم تخطيطي يستخدم للدلالة على شيء أو مكان ما، وقد يكون على هيئة تمثيل مصور أو علامة أيقونية تمثل أفكاراً معقدة لا يعبر عنها من خلال الكلمات أو الأصوات، ولكن باستخدام وسيط مرئي ينقل المعنى.
تعتبر العلامات التصويرية Pictograms واحدة من أقدم أشكال التواصل المكتوب، ولعبت دوراً محورياً في تاريخ البشرية. نشأت هذه الرموز المرئية في الحضارات القديمة، وتجاوزت الحدود الزمنية والثقافية، وتطورت إلى لغة عالمية تتحدث إلى الناس في جميع أنحاء العالم.
تاريخ العلامات التصويرية
تعود جذور العلامات التصويرية، والتي يشار إليها أيضاً بالرموز الإرشادية والرسوم التوضيحية، إلى الحضارات القديمة، إذ عبر البشر الأوائل عن أفكارهم من خلال رسومات بسيطة على جدران الكهوف.
تطورت هذه الرموز البدائية إلى أنظمة أكثر تعقيداً، مثل الهيروغليفية المصرية والأحرف الصينية، والتي كانت بمثابة أشكال مبكرة للغة المكتوبة. كانت الصور التوضيحية وسيلة اتصال تجاوزت الحواجز اللغوية، مما سمح للثقافات المتنوعة بنقل المعلومات من خلال الصور المرئية المشتركة.
تعتبر اللغة الصينية أصل الرمزية التي ما زالت موجودة في يومنا هذا. يعود تاريخ النقوش الصينية الأولى إلى عام 1200 قبل الميلاد، وكانت منقوشة على عظام أوراكل الشهيرة، وتضمنت رموزاً كانت بمثابة أسلاف الحروف التي لا تزال مستخدمة حتى اليوم.
وتغيرت الرموز المصورة بشكل كبير على مر التاريخ، ويعود أقدمها إلى نحو 15 ألف سنة قبل الميلاد، ويأخذ شكل لوحات جدارية داخل كهف لاسكو بالقرب من مونتينياك بفرنسا. ما زلنا لا نعرف لماذا تم رسم ستة آلاف صورة في هذا الكهف (تشمل صور حيوانات وأشكالاً بشرية وعلامات مجردة)، لكننا نعلم أنها كانت تستخدم لتوصيل رسالة محددة.
ومن الأمثلة المهمة الأخرى الهيروغليفية المصرية، ونظام الكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين، ورموز المايا، التي تعود جميعها إلى الفترة نفسها. كانت هذه لغات في حد ذاتها تستخدم نظاماً من العلامات التصويرية. وبفضل اكتشاف حجر الرشيد عام 1799 (الذي حمل نفس النقش بالهيروغليفية المصرية والديموطيقية واليونانية القديمة)، أمكن فك رموز الهيروغليفية للمرة الأولى وفهم أنها تمثل أصوات لغة كانت منطوقة ذات يوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في القرن الـ12، ظهر نوع جديد من العلامات التصويرية، وهو علامة لا تزال موجودة حتى اليوم بين أنبل العائلات، شعار النبالة الذي كان ينقش على خوذ ودروع الفرسان خلال العصور الوسطى، ثم تطور إلى شعارات عائلية.
ومع اختراع الطباعة في القرن الـ15 الميلادي، ظهرت علامات جديدة، وهي أفاريز زخرفية تم إدخالها في صفحات الكتب تسمى "صور متدرجة" vignettes. كانت تتميز في الأصل بزخارف نباتية، ومع مرور الوقت نمت لتشمل موضوعات مثل الدين والاحتفالات والمواسم والحيوانات.
مع تقدم المجتمعات، تطور أيضاً استخدام العلامات المصورة من النصوص القديمة إلى الرموز الموحدة المستخدمة في اللافتات المعاصرة وأنظمة الاتصالات، وتكيفت الصور التوضيحية لتناسب حاجات الحضارات المتطورة. يعتمد العالم الحديث بشكل كبير على الرموز المفهومة عالمياً، مثل تلك المستخدمة في إشارات المرور والمطارات والأماكن العامة، مما يخلق شكلاً سلساً من التواصل العالمي.
لغة عصرية لا تحتاج إلى كلمات
في عالمنا المعاصر المتسارع، أصبحت العلامات التصويرية لغة فعالة يفهمها الناس بلا حاجة إلى الكلمات. تعبر هذه الرموز البصرية عن أفكار وتوجيهات بشكل فوري وعالمي وبشكل يومي وتجعل الملايين يتفاعلون بسلاسة مع بيئتهم. في الطرقات مثلاً، توجهنا بسهولة، حيث يعلمنا المثلث الأحمر بالتحذير، والسهم يشير إلى الاتجاه المطلوب.
داخل المطارات والمحطات والمراكز التجارية، تتيح لنا العلامات التصويرية تحديد اتجاهات السير، والتعرف إلى المرافق والخدمات المتاحة بطريقة فورية لا يتطلب تفكيراً في تفاصيل معقدة.
لا بد من الإشارة إلى أن أهمية العلامات التصويرية لا تقتصر على العالم الواقعي، بل تمتد إلى العالم الافتراضي. من رموز الإعجاب على منصات التواصل الاجتماعي إلى الأيقونات التي تمثل البرامج والتطبيقات، تشكل هذه الرموز لغة مبسطة تسهل التفاعل والتواصل.
وفي عالم السفر والسياحة، إذ يلتقي الأشخاص من مختلف الثقافات واللغات، تكتسب الرموز أهمية خاصة، فتوفر للسياح والزوار وسيلة فعالة لفهم التوجيهات والمعلومات من دون الحاجة إلى الاعتماد على اللغة المحلية.
على سبيل المثال، يمكن للسياح أن يفهموا مواقع الجذب والمرافق السياحية من خلال العلامات التصويرية للمتاحف والحدائق والقلاع والمواصلات العامة، مما يجعل تجربة السفر أكثر سهولة واستمتاعاً. وفي الفنادق والمطارات، تقدم الرموز التوضيحية إرشادات حول الخدمات المتاحة، مثل الغرف وخدمات الغسيل، وأحواض السباحة وصالات اللياقة البدنية، مما يسهم في توفير تجربة إقامة ميسرة ومفهومة للزوار من جميع أنحاء العالم.
علامات تصويرية شهيرة
يقول الكاتب كولن سالتر إن الرموز شدت انتباهه منذ طفولته، وكان أول رمز حرض فضوله هو رمز الطرح والجمع الذي ابتكره روبرت ريكورد في عام 1557.
في كتابه "100 رمز غير العالم" يستعرض سالتر أمثلة عديدة على العلامات التصويرية ويشرح أهميتها، بدءاً من الرموز الواضحة، مثل الصليب والقبضة المرفوعة التي تبنتها حركة "حياة السود مهمة"، وحتى الرموز الأقل وضوحاً مثل رمز الإشعاع.
ويشير الكاتب إلى أن بعض الرموز باتت علامات فارقة في التاريخ البشري في حد ذاتها، مثل رمز السلام، أحد الرموز الأكثر شهرة في العالم، وهو شعار قوي ولد من رحم الحركة المناهضة للأسلحة النووية في القرن الـ20 وصممه الفنان البريطاني جيرالد هولتوم في عام 1958، ويجمع الرمز بين حرفي "N" و"D" (يرمزان إلى نزع السلاح النووي Nuclear Disarmament). وأصبح تصميمه البسيط والمؤثر منذ ذلك الحين رمزاً عالمياً للسلام، متجاوزاً الحواجز الثقافية واللغوية.
من بين أبرز العلامات الأخرى، رمز منطقة الخطر الذي يلعب دوراً حاسماً في ضمان سلامة العامة. تحذر هذه العلامة، المعترف بها على نطاق واسع وتتميز بعلامة تعجب أو جمجمة داخل مثلث غالباً ما يكون باللون الأصفر، الأفراد من الأخطار المحتملة في موقع ما.
تتبنى الدول والهيئات نسخاً مختلفة من هذا الرمز، ولا يمكن إرجاع الفضل في تصميمه إلى فرد أو جهة معينة، بل هو نتيجة جهود مشتركة لعديد من المتخصصين في مجالات السلامة والتصميم، لكن يقال إن النسخة الأولى من هذه العلامة جاءت عام 1966 نتيجة عمل جماعي لمصممين في شركة "داو كيميكال" الكيماوية متعددة الجنسيات. يوضح هذا الرمز، الذي جاء نتيجة ضرورة وجود تحذيرات واضحة ومفهومة عالمياً، الأهمية العملية للعلامات التصويرية في العالم الحديث.
في السنوات الأخيرة، أصبحت الصور التوضيحية أدوات قوية في الحركات الاجتماعية والسياسية. واكتسبت القبضة المرفوعة، التي ترمز إلى التضامن والمقاومة، شهرة كرمز لحركة حياة السود مهمة. انبثق هذا الرمز من عصر الحقوق المدنية، ولقي صدى عالمياً، متجاوزاً الحواجز اللغوية لينقل رسالة الوحدة في مكافحة الظلم العنصري.
مساهمة راجي (روجر) كوك
تبدو العلامات المصورة شيئاً بسيطاً، لكنها في الواقع نتيجة جهود جبارة ومتراكمة عبر سنين طويلة من كبار المصممين والعلماء من جميع أنحاء العالم. وتميل التعريفات التي تم تطويرها على مر السنين إلى التعامل مع العلامات المصورة من منظور واحد، إذ تدرس جوانب مثل تاريخها أو وظيفتها أو فعاليتها البصرية، ومع ذلك، فإن الصور التوضيحية هي في الواقع متعددة الأوجه، وتعرض من خلالها علاقات مختلفة بين العلامة ومعناها، وبين المعنى والغرض المقصود. لذلك، في حين أن الصور التوضيحية قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، إلا أنها في الواقع تفتح نافذة على عالم معقد ورائع.
من بين المساهمين البارزين في عالم العلامات المصورة مصمم الجرافيك الفلسطيني الأميركي راجي (روجر) كوك. ولد كوك في نيوجيرسي عام 1930 لأبوين فلسطينيين. كان مصمم غرافيك محترفاً ونحاتاً وناشطاً مناصراً للسلام في الشرق الأوسط وكاتباً ومتطوعاً مثابراً في المجتمع.
يشتهر كوك بتصميماته المؤثرة، بما في ذلك رمز مكافحة الفصل العنصري الشهير الذي اكتسب شهرة خلال النضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. يعكس عمله قدرة الصور التوضيحية على نقل رسائل معقدة وتعزيز الشعور بالتضامن العالمي.
حاز كوك تقديراً وطنياً في 30 يناير (كانون الثاني) من عام 1985، عندما قدم له الرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريغان جائزة التصميم الرئاسية عن عمله في إبداع مجموعة من الرموز العامة البارزة، بما في ذلك الرموز الرائجة التي تحدد حمامات الرجال والنساء والمناطق التي يمنع فيها التدخين. كانت هذه الرموز مصممة لمساعدة الجميع على التنقل في الأماكن العامة بغض النظر عن اللغة التي يتحدثونها.
استمرت مسيرة كوك المهنية 50 عاماً، شملت مشاريع لعدة شركات ومنظمات، ولم يفقد حماسته للفن والإبداع أبداً، وكان رئيساً لشركة "كوك أند شانوسكي"، وهي شركة تصميم غرافيك أسسها عام 1967. أنتجت الشركة أشكالاً مختلفة من الخدمات البصرية للمؤسسات، بما في ذلك هوية الشركة والإعلان واللافتات والتقارير السنوية والكتيبات.
نشر في عام 2017 سيرته الذاتية بعنوان "رؤية لوالدي: حياة وعمل الفنان والمصمم الفلسطيني الأميركي راجي كوك"، وتوفي عام 2021 عن 90 سنة في دار للرعاية في نيوتاون بولاية بنسلفانيا.
ندرك مما سبق أن العلامات التصويرية المتجذرة في الحضارات القديمة تكيفت مع متطلبات العالم الحديث وتلعب دوراً حيوياً في تسهيل حياتنا وتنقلاتنا وحتى تواصلنا، لدرجة علينا الاعتراف بأننا نعيش في عصر الرموز التي تمثل كل التطبيقات في هواتفنا المحمولة وأجهزة الكمبيوتر والمنصات الإلكترونية.
وفي النهاية، إذا أعجبكم هذا المقال، أنتم لستم في حاجة إلى قول ذلك أو حتى التعبير عنه بجملة مكتوبة، فهناك رمز صغير ليد مرفوعة الإبهام يفي بالغرض.