السعي للكمال وجلد الذات

منذ 1 يوم 16

السعي للكمال وجلد الذات


استشارات متعلقة

تاريخ الإضافة: 2/3/2025 ميلادي - 2/9/1446 هجري

الزيارات: 20


السؤال:

الملخص:

فتاة ملتزمة بالصلاة في وقتها، بشوش، تنجز أعمالًا يومية كثيرة، لكن سعيها للكمال جعلها تجلد ذاتها، وتكره ما حولها، وتسأل: ما النصيحة؟

التفاصيل:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة طيبة، أحافظ على الصلوات في وقتها، بشوشٌ، وأُنجز الكثير من العمل في يومي، لكني أجدُ نفسي ساعية للكمال بشكل كبير جدًّا؛ وهذا أدى إلى تحطُّم نفسي، وكراهيتي للعالم؛ إذ لا أدري من أين أبدأ، وأخاف من التعبير عن رأيي، فما الحل؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:

نرحب بكِ أختنا الكريمة، ونشكر لكِ ثقتكِ في موقع شبكة الألوكة، ونسأل الله أن نكون عند حسن الظن في تقديم ما يسُرُّكِ ويفيدكِ، وأن تجدي بُغيتكِ في هذا الموقع المبارك.

يمرُّ علينا في الحياة عددٌ من المواقف، تؤثِّر في أدائنا ومشاعرنا، وأفكارنا وسلوكنا، وتُفقدنا القدرة على القيام بمهامِّنا اليومية، وعلاقاتنا الاجتماعية والوظيفية، وقد تدفع بنا إلى الدخول في حالات نفسية سيئة، تؤدي في النهاية إلى تغيير حياتنا، وكُرْهِ مَن حولنا، وفقدان الثقة بأنفسنا، ومن المهم في هذه الحالة ألَّا نتأخر في التشخيص ومن ثَمَّ العلاج.

أبدأ من نقطة مهمة ذكرتِها في ثنايا استشارتكِ بقولك: "أجد نفسي ساعيةً للكمال بشكل كبير جدًّا"، ووصفكِ للكمال الذي تسعين إليه بأنه "كبير جدًّا"، لن يتحقق بأي حال، فالكمال ليس في مقدور البشر، مهما كان الأمر؛ لأن المعيار الذي اخترتِهِ بهدف تحقيق الكمال قد يشكِّل خطرًا على صحتكِ النفسية.

يجب أن نفرِّق بين الكمال والتميُّز؛ فالكمال محال، والسعي إلى التميز سمة شخصية بارزة، ترتبط بالموهبة، يتم من خلالها العمل بجدٍّ دون إرهاق أو مللٍ، والمتميز مستعدٌّ لخَوضِ التجارِب الجديدة، ويتعلم من أخطائه، على العكس ممن يطلب الكمال؛ فإنه يُرهِق نفسه بالعمل، ولا يشعر بالثقة في نفسه، لكمال ما يصبو إليه، ومصدر الفشل هو لوم نفسه على التقصير الذي لم يكن هو سببًا فيه، بل فوق طاقته، وفي النهاية يشعر بالفشل على عدم الوصول إلى الكمال، وقد يتهرب من التجارب الجديدة خوفًا من الأخطاء؛ لأن الكمال كما يراه هو يكون بدون أخطاء.

فقد يكون ما حصل لكِ نتيجةً لتعرضكِ لموقف سيئ، أو مجموعة مواقف متعِبة، تراكمت داخلكِ بسبب طلبكِ للكمال، وعبرتِ عنها بطريقة غير مباشرة بالألم، والحسرة، وجلد الذات؛ ما أدى بكِ في النهاية إلى كُرهِ مَن حولك، كما ذكرتِ.

قد تتحدثين عن نفسكِ وتقولين: ما الذي سبَّب لي هذه الحالة السيئة، وتفكِّرين فيما حصل لكِ، وتتوقعين أنكِ لم تمرِّي بأيِّ أمرٍ يزعجكِ، وتنعتين نفسكِ وتقولين بأنكِ بشوشٌ، وأنكِ تنجزين الكثير من العمل في يومكِ، وتحافظين على الصلاة في وقتها، ولا تعلمين أن السعي للكمال هو سبب ما أصابكِ.

قد يبدأ السعي إلى الكمال في وقت مبكرٍ من الحياة، ويكون استجابةً طبيعيةً للنقد المستمر ممن هم حولكِ؛ لبُغية وصولكِ إلى التميُّز، والخوف على الواقع، والإمكانات، والمكانة، وطبيعيٌّ أن يكون لهذا النقد آثار سيئة، وبعيدة المدى على الشخصية، والحالة النفسية والحياة، والعمل، حتى على العلاقات بزملاء العمل، والعلاقات بالمجتمع كله، ويجعلنا مستنزَفين جسديًّا، وعاطفيًّا، وفكريًّا، وفي النهاية نكون غير قادرين على عمل ما هو مطلوب منا، ونلجأ إلى الاستسلام، ولن يكون هذا الاستسلام إلا بعد أعراض نفسية متعبة، كفانا الله وإياكم شرَّها.

وربما أنكِ - وأنتِ صغيرة - عِشتِ في بيئة تحُثُّ على الكمال وترغِّب فيه، ما حدا بكِ إلى العمل فوق طاقتكِ، وحدث لكِ ما حدث بسبب من يشجعكِ على هذا الكمال.

أهم نقطة في علاج ما أصابكِ هو تحديد المشكلة بمعرفة الأسباب التي أدت إلى ظهورها، وذلك بدراستها دراسةً مُستفِيضة، وبعد فَهمِ كلِّ سببٍ على حِدَةٍ، لا بد من اختيار الأسباب الرئيسية المؤدية للمشكلة، فإذا كان هناك سببٌ آخر غير نظرة الكمال، فلا بد من تحديده، والسعي مباشرة إلى حلِّه، فالإحساس السيئ الذي تشعرين به يحتاج منكِ لفَهم المشكلة فَهمًا دقيقًا، ومعرفة الأسباب، ولا بد من الاعتراف بسبب المشكلة، والتجاهل يُراكم الإحساس السيئ مددًا طويلة، وقد يؤدي في النهاية إلى مساوئ أكثر، لا سمح الله.

لا تُلقي اللومَ على مَن حولكِ أنهم هم سبب فشلكِ، قبل أن تنتهي من دراستكِ للمشكلة كاملة؛ فهذا الاتهام قد يزيد مشكلتكِ تعقيدًا، ويُعمِّق لديكِ الإحساس السيئ بمن هم حولكِ.

قلتِ: إنكِ تخافين من التعبير عن رأيكِ؛ لأنكِ تخافين من انتقاد الكمال، وتلومين نفسكِ عند الوقوع في الأخطاء؛ لأن الكمال منافٍ للمحاولة والخطأ، وخوفكِ من التعبير عن رأيكِ هو بسبب الخوف من الخطأ بحدِّ ذاته.

ولحل هذه المشكلة:

لا بد أن تفهمي حدود طاقتكِ وقدراتكِ، وإمكانياتكِ واستيعابكِ، ولا تكلِّفي نفسكِ فوق طاقتكِ، ولا تتركي العمل من أجل أنكِ لم تبلغي الكمال فيه؛ فيجب التوازن في هذا الأمر.

ينبغي معرفة مواطن القوة والضعف لديكِ، واستغلال القوة في خدمة أهدافكِ، ومعرفة مواطن الضعف لكي تعملي على معالجتها وتطويرها.

إعادة تقييم الذات، والتدرب على المرونة النفسية، والتقبُّل والقبول، مع ملاحظة الأعراض التي تؤدي إلى الإرهاق ومعالجتها مباشرة بمعرفة أسبابها.

يجب فَهمُ أن قاعدة الكمال ليست للبشر، والقصور موجود في كل ما نقوم به، فنعالج القصور، ونبتعد عن منظور الكمال؛ لأن الكمال لله سبحانه وتعالى.

لا بد من وضع أهداف محدَّدة، ومحاولة تحقيق أكبر نسبة منها، فالهدف الذي لم يتحقق منها نحاول إنجازه مرة أخرى وفقًا لحدود طاقاتنا، فإذا لم نستطع تنفيذه، نقوم بتجزئته إلى أهداف صغيرة، نحاول تحقيق ما نستطيع منها.

الأخطاء فرصة نتعلم منها، وكثير من الناجحين قبل أن ينجحوا مرُّوا بمواقف فشلٍ، ساهمت في معرفة الحقيقة، وتعلَّموا منها، واستفادوا الفائدة العظمى التي وجهتهم في النهاية إلى النجاح.

لا بد من طرد المشاعر السلبية، وتحقيق السلام الداخلي، والعمل على التفكير الإيجابي الذي يساهم في التعامل مع ضغوط العمل، ويزيد الطاقة الإيجابية والحيوية.

ها أنتِ وجدتِ نفسكِ مُنهَكَة بمعاناتكِ من آثار الكمال المفرطة، فمن المهم في هذه المرحلة استخدام العلاج السلوكي المعرفي للتخلص مما حصل لكِ من آثارٍ وأعراض؛ للوصول إلى حياة أكثر اتزانًا وعمقًا، لتتغير علاقتكِ مع نفسكِ ومع من حولكِ.

وإن لم تنجح مرحلة العلاج السلوكي المعرفي، فلا بد من عرض حالتكِ على طبيب نفسيٍّ مختص؛ حتى يمسكَ بيدكِ، ويبعدكِ عما أصابكِ، ويوجهكِ إلى الطريق الصحيح.

نسأل الله أن يُعينك، ويُعيد توازنكِ من جديد، ويرسم البهجة على محيَّاكِ، فأنتِ إنسانة طيبة، بشوش، تُحبِّين الإنجاز، وتحافظين على الصلوات في وقتها.