ماذا تريد السعودية؟ سؤال يُعاد طرحه مع كل أزمة في المنطقة تبادر المملكة العربية السعودية لتطويقها والبحث عن حل لها، ويتكرر مع كل مبادرة أو تحرك من قبل الحكومة السعودية لحلحلة أزمات العالم العربي. لم يكن الوضع في سوريا استثناءً وإن أتت النتائج مختلفة، فالدور المؤثر الذي تقوده المملكة لاستقرار سوريا وازدهارها له بُعد تاريخي وعمق سعودي سوري عبر التاريخ، لكنني سأركز هنا على الشق السياسي وسأبدأ فقط منذ عهد الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد ثالث حكام الدولة السعودية (1803-1814)، إذْ كان عدد من النخب السوريين يتطلعون إلى وصول قواته إلى دمشق لتخليصهم من التسلط العثماني. وعندما انطلق مشروع الملك عبد العزيز الوحدوي، كان هناك حراك سياسي داخل سوريا يسعى للتخلص من الحكم الأجنبي وقسوته، ففي عام 1914 كان قد مضى 400 عام على وقوع سوريا تحت الحكم العثماني الذي عانت منه، وكان السوريون يتطلعون إلى حكم عربي فرأى بعضهم في الملك عبد العزيز الأمل الذي يمكن أن يحقق تطلعاتهم، وبدأ تواصُل السياسيين السوريين معه.
وقف الملك عبد العزيز مع السوريين ودعم مطالبهم، وأيدهم ضد الانتداب الفرنسي، وكان أول من اعترف باستقلال سوريا، كما احتضن عديداً من رموزهم السياسية والوطنية الذين اضطرتهم الظروف لترك بلادهم كشكري القوتلي وصبري العسلي وفوزي القاوقجي، وعمل بعضهم في بلاطه مستشارين مثل يوسف ياسين وخالد الحكيم، أو مسؤولين في حكومته كخير الدين الزركلي وطاهر رضوان، أو أطباء مثل محمود حمدي حمودة ومحمد علي الشواف ورشاد فرعون ومدحت شيخ الأرض، أو ممن تولوا مهمات أو مناصب في مجالات الإعلام والتعليم والثقافة والنشر كمحب الدين الخطيب ورشيد رضا ومحمد كامل القصاب ومحمد بهجت البيطار، وغيرهم.
وفي عام 1949 - وقبل الثورة المصرية بثلاث سنوات - قاد حسني الزعيم أول انقلاب أدى إلى تولي العسكر السلطة فعلياً في العالم العربي، سبقه حركة بكر صدقي في العراق عام 1936 التي يعدها بعض المؤرخين الانقلاب الأول عربياً، بينما كانت حركة استهدفت الحكومة العراقية وليس النظام الملكي وقتذاك، لكنها كانت إيذاناً بتدخل العسكر في الحياة السياسية. دخلت سوريا في مرحلة من عدم الاستقرار مع توالي الانقلابات فيها، ولم تشأ الحكومة السعودية التدخل في الشأن الداخلي واحترمت الخيارات السورية، على الرغم من تنامي التيارات اليسارية المعادية للسعودية على الساحة السياسية السورية. مع تولي حافظ الأسد السلطة إثر انقلاب 1970 أخذت العلاقات منحى إيجابياً وشهدت تنسيقاً عالياً خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، مرت تلك العلاقات بمنعطفات عدة وتأرجحت المواقف، إلا أنّ البلدَين استطاعا تجاوز كثير من التوترات التي لم تظهر للعلن. مع تولي بشار الأسد السلطة عام 2000 شهدت العلاقات تذبذباً وتراجعاً أدى إلى قطعها عام 2012. ومع ذلك استقبلت المملكة العربية السعودية، وبتوجيه من الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، أكثر من مليونين من النازحين السوريين الذين غادروا بلادهم بسبب الأوضاع المتردية، ولم تعاملهم كلاجئين ومنحتهم حرية الإقامة والحركة والخدمات الصحية والتعليم.
ومن شاء أن يفهم سياسة النَّفَس الطويل وطريقة عمل الدبلوماسية السعودية لمعالجة الملفات المعقدة، فليقرأ ما كتبه الدكتور رضوان السيد على صفحات هذه الجريدة في أكتوبر 2015: «وقد اعتاد السعوديون الدبلوماسية السرية والصبورة، لكنهم ما اعتادوا التخلي عن ملف استراتيجي مثل الملف السوري... إن رهان السعودية هو على سوريا البلد العربي الذي يُهجَّر شعبه ويُقتل منذ 4 سنوات. لذلك فالمهمة هي إيقاف النار على الشعب السوري، والحفاظ على الدولة، وإعادة الإعمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضري. وهذه مهمات عسيرة جداً...»!
كان ضمن المساعي السعودية لتخفيف التوترات وترميم العلاقات في المنطقة، وكجزء من استراتيجيتها لمعالجة الملف السوري، استئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا عام 2023، إلا أن التقارب مع نظام الأسد كان جزئياً.
ومع سقوط ذلك النظام (ديسمبر/كانون الأول 2024) سقط معه (حزب البعث العربي الاشتراكي)، الذي ظل مع غيره من الأحزاب والحركات اليسارية على مدى عقود تسوق إلى بطولات وهمية ووعي زائف وترفع الشعاراتية السياسية من خلال الخطابات المؤدلجة التي ظللت الشارع العربي، وولدت عقليات سياسية إقصائية وقودها المزايدات والتخوين ومحركها الولاءات الضيقة، وأدَّت إلى تدمير الدول وتهجير أبنائها وهجرة عقولها من خلال السياسات الخاطئة وغياب الواقعية السياسية، والاستخفاف بموازين القوى، وهي ظاهرة تستدعي التأمل وتستحق الدراسة.
ومع سقوط نظام الأسد، رحّبت المملكة العربية السعودية بالخطوات التي تمَّت لتأمين سلامة السوريين وحقن الدماء والحفاظ على مؤسسات الدولة ومقدرات البلاد، ودعت المجتمع الدولي للوقوف إلى جانب الشعب السوري ومساندته لتجاوز أزماته مع عدم التدخل في شؤونه الداخلية. وكما جاء أول اعتراف من الملك عبد العزيز باستقلال سوريا، جاء الاعتراف السعودي بالوضع الجديد فيها مبكراً تبعه الدعم السياسي والإنساني. يطول الحديث عن المواقف السعودية تجاه سوريا، التي لخَّصها الرئيس أحمد الشرع في مقابلته مع قناة العربية بقوله: «المملكة تلعب دوراً محورياً في استقرار سوريا، وإنه يفتخر بكل ما فَعَلَته لأجل سوريا ولها دور كبير في مستقبل البلاد». كل هذه الأسباب مجتمعة إضافة إلى توظيف المملكة العربية السعودية ثقلها وعلاقاتها وإمكاناتها، مع اهتمامها بعودة سوريا إلى حضنها العربي واحترام خيارات شعبها ودعم سيادتها، هو ما يمكن أن يوضح سبب اختيار الرئيس أحمد الشرع الرياض لتكون وجهة أولى في زياراته الخارجية. أما الحفاوة التي لقيها والوفد المرافق فتؤكد عمقَ العلاقات وما ينتظرها في المستقبل، وهو ما لخَّصه السياسي السوري عبيدة نحاس أن الزيارة «ليست مجرد رسالة إعلامية وسياسية؛ بل هي توجه واعٍ نحو السعودية بوصفها العمق الاستراتيجي لسوريا وشعبها».