ملخص
يعد حيّ الجمالية متحفاً مفتوحاً يضم تطور الفنون والعمارة الإسلامية وملتقى للفنون والحرف التراثية على اختلاف أنواعها
في قلب القاهرة تقع منطقة الجمالية، واحد من أقدم الأحياء في مصر، وليس في القاهرة فحسب، المنطقة العريقة التي تضم عدداً كبيراً من الآثار الإسلامية أهلتها لأن تكون ضمن القاهرة التاريخية التي أدرجتها "اليونيسكو" على قوائم التراث العالمي.
مساجد ومدارس وأسبلة ومبانٍ تاريخية عديدة عكست الثقافة الإسلامية عندما تتقاطع مع الحضارة المصرية، فينتج منها تراث متفرد يجمع بين طبقات من التاريخ تنتج منها نماذج فنية فريدة لا تزال تبهر الناس حتى عصرنا الحالي، وتدفعهم إلى التأمل في رقي الفنون وعظمة الإنشاءات.
تضم المنطقة مساجد عريقة تعد من الأشهر في العالم، مثل الجامع الأزهر ومسجد ومقام الحسين وجامع الحاكم بأمر الله، وتضم حالياً أبواب مصر القديمة، التي كانت على حدود القاهرة في أزمنة سابقة، مثل باب الفتوح وباب زويلة، إضافة إلى كل الآثار التي يضمها شارع المعز لدين الله، التي أصبحت حالياً من أبرز المواقع الأثرية داخل القاهرة.
وإلى جانب القيمة الأثرية والتاريخية الكبيرة للمنطقة فهي تعد مسقط رأس عديد من المبدعين المصريين في كل المجالات، وعلى رأسهم الأديب العالمي نجيب محفوظ، الذي كان مولده ونشأته الأولى في هذه المنطقة، لينعكس ذلك لاحقاً في أعماله، التي وصفت بدقة صورة وطابع المباني والشوارع والمتاجر، ورصدت طبيعة الشخصية المصرية التي عاشت في قلب هذه المنطقة، وكانت جزءاً منها.
آثار من عصور متلاحقة
عن تاريخ حي الجمالية يقول الباحث في التاريخ الإسلامي سامح الزهار، "الجمالية حي يجمع بين الجغرافيا والتاريخ والناس، فالقاهرة بنيت بأمر من المعز لدين الله، وكانت حدودها آنذاك من باب الفتوح حتى باب زويلة، وكان بها كثير من القصور والمساجد والأبنية، والجمالية تقع في قلب هذه المنطقة، في هذا الوقت لم تكن تعرف بالجمالية، إنما أطلق عليها هذا الاسم لاحقاً لتتحول مع مر السنوات والعصور إلى واحد أكثر الأماكن التي تعكس التاريخ والتراث والأصالة، والرأي الأرجح في اكتساب المنطقة لاسم الجمالية هو أنها أطلق عليها هذا الاسم نسبة لجمال الدين الاستادار عندما بنى مدرسة حملت اسمه في هذا المكان، ومن هنا أصبحت تعرف بالجمالية نسبه إليه، لكنها في عصور سابقة لم تعرف بهذا الاسم".
ويضيف، "حي الجمالية هو أقدم نموذج لفكرة الكمبوند المنتشرة في العصر الحديث، فهي منطقة سكنية كان يحيط بها أسوار القاهرة التي تفتح أبوابها وتغلق بنظام محدد، وكانت تضم مباني فاخرة عديدة، وكانت تفصل ما بين (القصرين) الشرقي والغربي، الذين حكم منهما الفاطميون وعرفت هذه المنطقة لاحقاً بالفعل بـ(بين القصرين)، وضمت أيضاً المنطقة التي تعرف ببيت القاضي، وكان يسكن فيها القضاة في هذا الوقت، ولا تزال تعرف بالاسم ذاته، ومن أهم مواقعها حتى الآن منطقة مسجد الحسين وساحته وما حوله، فهي تحظى بأهمية كبيرة عند المصريين على مدار السنوات، وتمثل مكانة خاصة عند المصريين في كل أنحاء البلاد".
تضم منطقة الجمالية كنوزاً من التراث المعماري الذي مر على مصر منذ أن أنشئت القاهرة ممثلاً لكل نظم الحكم التي تعاقبت عليها لتصبح متحفاً مفتوحاً لكل محبي التراث الإسلامي، فالتجول بين شوارعها القديمة يمثل رحلة ثقافية وتاريخية.
يقول الزهار، "حظيت المنطقة بأهمية كبيرة، فهي من المناطق النادرة التي تجتمع فيها مراحل تطور التراث المعماري الإسلامي، فنجد الآثار التي تعود للفاطميين مثل مساجد الأزهر والأقمر والحاكم بأمر الله، ونجد آثاراً نادرة تعود للعصر الأيوبي مثل المدرسة الكاملية، وآثار تعود لعهد المماليك مثل مجموعة قلاوون، وتضم أيضاً آثاراً عثمانية مثل أعمال عبدالرحمن كتخدا، فالجمالية منطقة جامعة لسلسلة التاريخ، وتضم تنوعاً معمارياً لا مثيل له يعكس تطور كل الفنون الإسلامية".
وتابع، "الملاحظ في العمارة الإسلامية في المنطقة هو أنها كانت عمارة وظيفية، بمعنى أن المبنى له وظيفة معينة مثل السبيل والكتاب والمسجد، وهذا يظهر جلياً في الجمالية التي تضم طبقات متنوعة من التاريخ، ووثيقة تاريخية لتطور الفنون، وإلى جانب ذلك تعكس المنطقة التاريخ غير المادي من خلال حكايات الناس وعاداتهم، فهي نموذج مصغر لمصر كلها".
الجمالية والإبداع
كثر من المبدعين نشأوا في منطقة الجمالية وتأثروا بها، وكانت مصدراً مستمراً للإبداع بالنسبة لهم على مدار حياتهم، وعلى رأسهم الكاتب الكبير نجيب محفوظ الذي ولد في الجمالية وتلقى بداية تعليمه في كتاب الشيخ بحيري الواقع بحارة الكبابجي، ثم تلقى تعليمه الأساس لاحقاً بمدرسة "بين القصرين الابتدائية".
يعد نجيب محفوظ أكثر من وصف الجمالية وأهلها في عديد من أعماله، وعلى رأسها "الثلاثية"، وقد قال نجيب محفوظ عن الجمالية، "إن هذا الحي التاريخي حي الجمالية أو شياخة الجمالية ظل يأسرني داخله مدة طويلة من عمري، وحتى بعد أن سكنت خارجه، وحين استطعت أن أفك قيود أسره من حول عنقي لم يأتِ هذا ببساطة، إنك تخرج منه لتعود إليه، كأن هناك خيوطاً غير مرئية تشدك إليه، وحين تعود إليه تنسى نفسك فيه، فهذا الحي هو مصر، تفوح منه رائحة التاريخ لتملأ أنفك، وتظل تستنشقها من دون ملل".
وعلى مدار السنوات كانت الجمالية ملتقى للفنانين من كل المجالات، فهي مكان ذو طاقة دافعة للإبداع، فالتجوال في الشوارع العريقة وسط الأبنية التاريخية يلهم المبدع كثيراً من الأفكار التي يستلهم منها في كل مجالات الإبداع، سواء الكتابة أو الفنون التشكيلية، وغيرها.
يقول ابن حي الجمالية الشاعر صلاح سليمان، "حي الجمالية من أقدم أحياء العالم، وهي مزار عالمي، وهناك عشرات من المبدعين خرجوا من حي الجمالية، ومن أهم ما يميزها المجتمع الشعبي الراقي الذي يضم أبناء البلد الذين يعدون المنطقة وطناً لهم، وتميزهم عادات أصيلة مثل الترابط والحفاظ على العادات الشعبية المصرية الجميلة، ومن بينها طقوس رمضان التي تميز المنطقة عن أي مكان آخر في العالم".
ويضيف، "نجيب محفوظ يعد أكثر من عبر بصدق عن حي الجمالية في أعماله، إذ نقل تجارب حقيقية عاشها منذ طفولته وشخصيات قابلها بالفعل، قدمها في حكايات وروايات، فصدقها الناس، ووصلت به إلى العالمية، الدراما قدمت الجمالية كثيراً في عديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية يمكن اعتبار أشهرها ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، لكن في كثير من الأعمال أحياناً ما كانت تقدم بصورة فيها كثير من المبالغة، مثل شخصية الفتوة على سبيل المثال، فالفتوات في الحارة المصرية كانوا من العائلات الشهيرة في المنطقة، ولم يعتمدوا البلطجة بالصورة التي صورها كثير من الأعمال، فالفتوة هو كبير الحي والشخص الذي يجري اللجوء إليه لرد الحقوق".
يشير الشاعر صلاح سليمان إلى أنه في العصر الحديث قدمت الجمالية في عديد من الأعمال الدرامية، ومن أشهرها مسلسل "أرابيسك" للكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، فهو نقل حالة الحارة المصرية والعلاقات بين أهلها وتمسكهم بالمبادئ والقيم الشعبية المصرية، وأظهر الحرف والفنون التراثية التي تشتهر بها.
معقل الحرف التراثية
أنواع وصور مختلفة من الحرف التراثية تضمها الجمالية تتوارثها الأجيال على مر العصور، وتعد كنوزاً تزخر بها، ويقبل عليها المصريون والأجانب الموجودون بصورة دائمة في المنطقة التي تعد من أهم المزارات السياحية في القاهرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول سليمان، "تعد الجمالية واحداً من أهم مراكز الحرف اليدوية في مصر وأكثرها تنوعاً، ففي الغورية نجد منطقة الخيامية الشهيرة، وعلى الجانب الآخر نجد مناطق، مثل الصاغة معقل صناعة وتجارة الذهب في القاهرة، وأيضاً منطقة النحاسين التي تضم حرفة النقش على النحاس، وغيرها كثير من الحرف اليدوية، مثل صناعات الخشب والزجاج التي تزدهر في المنطقة كصناعة وتجارة على السواء، فمن أصغر الورش في الجمالية تخرج أقيم القطع الفنية اليدوية التي تزين أفخم الأماكن داخل مصر وخارجها، فهي ملتقى للتراث الفني من الأعمال اليدوية التي تبدعها أنامل أمهر الحرفيين في مصر".