الاقتصاد الإبداعي... حين تصبح الفكرة ثروة والمحتوى صناعة

منذ 4 أيام 45

في عالم لم تعد فيه الثروات الطبيعية كالنفط والغاز المصدر الوحيد لقوة الاقتصادات، برزت صناعات قائمة على الإبداع البشري كمحركات جديدة للنمو. فالإبداع أصبح المورد الأكثر قيمة في العصر الحديث، حيث تتحول الأفكار إلى أصول اقتصادية تولد فرصاً غير محدودة. ولم يعد الإبداع مقتصراً على مجالات فنية بحتة، بل أصبح ركيزة أساسية لصناعات مزدهرة تسهم في الناتج المحلي، وتخلق ملايين الوظائف. والثقافة ليست مجرد موروث يُحفظ في المتاحف، ويعرض بين أروقة المعارض، بل باتت قطاعاً اقتصادياً يُنتج ويُصدَّر إلى العالم، والمهارات الإبداعية ليست مجرد هوايات، بل تحولت إلى وظائف تدر مليارات الدولارات سنوياً. هذا هو جوهر «الاقتصاد الإبداعي»، الذي بات أحد المحركات الرئيسية لاقتصادات القرن الـ21، حيث تسهم صناعاته - من السينما والموسيقى إلى الألعاب الإلكترونية والتصميم - بأكثر من 3.1 في المائة من الناتج المحلي العالمي، وتوظف أكثر من 50 مليون شخص.

تشهد بعض الصناعات الإبداعية نمواً يفوق العديد من القطاعات التقليدية؛ إذ تجاوزت قيمة سوق الاقتصاد الإبداعي عالمياً 2.25 تريليون دولار سنوياً؛ ما يعادل تقريباً الناتج المحلي الإجمالي لدول كبرى مثل إيطاليا أو البرازيل. هذا الرقم يوضح أن الصناعات الإبداعية لم تعد هامشية، بل أصبحت في حجم اقتصادات دول كاملة، ما يعكس تصاعد أهميتها بوصفها محركاً حيوياً للاقتصاد العالمي.

يدرك العديد من الدول الإمكانيات الهائلة للاقتصاد الإبداعي، ويسعى إلى تبني استراتيجيات واضحة لدعمه وتحفيز نموه... هل كنت لتصدق، قبل عقدين فقط، أن لغة يتحدث بها 75 مليون نسمة ستغزو العالم بأعمالها الدرامية وألحانها الآسرة؟ ومن كان يظن أن مسلسلاً كورياً مثل «لعبة الحبار» سيشاهده الملايين في أكثر من 90 دولة، ليتحول من مجرد عمل فني إلى ظاهرة اقتصادية عالمية؟

كيف تحولت كوريا الجنوبية، من دولة رائدة في تصدير الإلكترونيات، إلى قوة خلاقة تصدّر الإبداع والخيال؟ وما الذي جعل فرقة موسيقية واحدة تتحدى عمالقة الصناعة وتنافسهم في تحقيق العائدات؟

يكمن السر في رؤية استراتيجية جريئة تؤمن بأن الإبداع ليس ترفاً، بل رافعة اقتصادية، تستثمر في بناء بنية تحتية ثقافية متكاملة، وتدمج الفن بالتكنولوجيا، وتحوّل الأحلام إلى خطط عمل مدروسة.

والنتيجة؟ تُدرّ صناعة الـK - pop وحدها على اقتصاد كوريا أكثر من 10 مليارات دولار سنوياً، وتخلق آلاف الوظائف، وتصدّر الثقافة والهوية الكورية للعالم.

اليوم، لم يعد المطلوب أن نصدّق فقط... بل أن نواكب. علينا أن ننخرط في سباق الاقتصاد الإبداعي، وإلا فاتنا قطار المستقبل.

المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لا تنتظران المستقبل، بل تصنعانه اليوم، حيث يقود البلدان تحولاً استراتيجياً في المنطقة نحو ترسيخ الاقتصاد الإبداعي بوصفه أحد محركات التنمية المستقبلية. في السعودية، تدفع رؤية 2030 نحو جعل الصناعات الإبداعية ركيزة لتنويع الاقتصاد من خلال مبادرات مثل هيئة الأفلام، والهيئة العامة للترفيه التي طورت بنية تحتية متقدمة مثل استوديوهات الحصن Big Time ودعمت إنتاجات نوعية، ما رسّخ مكانة السعودية كوجهة عالمية لصناعة المحتوى. يقود هذه المنظومة شباب سعوديون يصنعون نموذجاً فريداً في الإبداع، ولا يقتصر الأمر على هذا الحد بل هناك أيضاً مراكز الإنتاج في نيوم والرياض، وشركة «سافي» للاستثمار في قطاع الألعاب الإلكترونية، ما يعزز مكانة المملكة بوصفها مركزاً إقليمياً للإنتاج والتقنيات الإبداعية.

في المقابل، تواصل الإمارات، عبر بيئة استثمارية مرنة وحوافز مبتكرة، مضاعفة مساهمة القطاع الإبداعي في الناتج المحلي. وتُعد أبوظبي نموذجاً بارزاً من خلال المنطقة الإبداعية - ياس التي تُعد مركزاً رائداً لصناعة الإعلام والمحتوى، حيث تحتضن مئات الشركات العالمية والمحلية العاملة في مختلف قطاعات الإعلام، ومبادرات دعم إنتاج الأفلام العالمية في أبوظبي، ومشروع «تيم لاب فينومينا أبوظبي»، الذي يجمع بين الفنون والتقنية والابتكار الثقافي، إلى جانب مبادرة أبوظبي للألعاب، التي تستهدف بناء منظومة متكاملة تضم شركات تطوير ونشر الألعاب وتحتضن المواهب المحلية، بالإضافة لاستضافة فعاليات الرياضات الإلكترونية.

لا يمكن لأي اقتصاد أن يزدهر دون أن يضع الإبداع في قلب استراتيجيته، فالدول التي تسعى إلى تحقيق أقصى استفادة من الاقتصاد الإبداعي يجب أن تستثمر في تطوير المواهب، وتوفر بيئة تنظيمية مرنة تحمي حقوق الملكية الفكرية، إلى جانب تصميم بنية تحتية رقمية متقدمة تتيح للمبدعين الوصول إلى الأسواق العالمية بسهولة. فكلما كانت البيئة حاضنة للإبداع، زادت الفرص أمام الاقتصادات الوطنية لتحقيق النمو والازدهار.

بينما يشهد الاقتصاد الإبداعي نمواً غير مسبوق، يتصدر الذكاء الاصطناعي المشهد العالمي بوصفه عامل تغيير رئيسياً. لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع أو نقرأ خبراً جديداً عنه، وسط جدل واسع حول تأثيره على الإبداع البشري. هل هو تهديد للمبدعين أم فرصة لتمكينهم؟ في حين يخشى البعض أن يحل محل العقول المبدعة، يرى آخرون أنه أداة قوية لتعزيز الإنتاجية ودفع حدود الإبداع إلى آفاق جديدة. فقد أصبح بإمكان مصمم واحد، باستخدام أدوات مثل MidJourney، إنجاز أعمال كانت تتطلب فريقاً كاملاً، مما يغير معادلات الإنتاج التقليدية. وهنا، تبرز الحاجة إلى دمج الذكاء الاصطناعي في منظومة الاقتصاد الإبداعي، لا كمجرد تقنية مساندة، بل كمسرّع رئيسي يرفع الكفاءة ويتيح للمبدعين التركيز على جوانب الإبداع في أعمالهم.

التحول نحو الاقتصاد الإبداعي لم يعد خياراً، بل ضرورة لضمان مكانة الدول في خريطة القوى الاقتصادية الصاعدة. فالرهان لم يعد على تقليد النماذج العالمية، بل على ابتكار نموذج متفرد، يستند إلى الإرث الثقافي العميق، ويستثمر في تقنيات العصر لبناء اقتصاد مستدام.

الإبداع لم يعد ترفاً فكرياً، بل أصبح عملة اقتصادية حقيقية. ومن يراهن عليه اليوم، يمتلك مفاتيح اقتصاد الغد.*متخصصة في الصناعات الإبداعية