ملخص
إذا أصبح الطفل نجماً حقيقياً ربما سيكافح في الانتقال إلى مرحلة البلوغ ويواجه تراجع شعبيته مع تقدمه في السن وحينها يمكن لأزمة الهوية أن تؤثر بصورة عميقة في حياته المهنية والشخصية.
على رغم أنه واحد من بين ستة لاعبين فقط ربحوا كل مسابقات الجراند سلام الأربعة للفردي في رياضة التنس أثناء مسيرته، و"الماسترز" و"كأس ديفيز" وميدالية ذهبية أوليمبية وغيرها كثير، فإن ما كشف عنه أندريه آغاسي في سيرته الذاتية منذ سنوات صدم القراء، فالطفل الموهوب في التنس شب ليصبح أهم لاعب في تاريخها، لكن المفاجأة كانت أنه لم يكن يحب هذه الرياضة، فقد كان يمارسها مجبراً.
ليس هذا فحسب بل إنه مع كل فرحة فوز جماهيرية كان صاحب الفوز "آغاسي" يزداد كآبة وحزناً، فهو يحقق طموح والده الذي بدأ معه منذ سن الثانية وجعله يتدرب لساعات في منزل العائلة بلاس فيغاس نيفادا، وفي الـ13 من عمره أرسله إلى أكاديمية "نيك بوليتيري" للتنس، لذلك لم يختر ما أراده لنفسه، وعندما فكر بالتراجع بعد سنوات شعر أن الوقت قد فاته، فأكمل مسيرته من حيث بدأ إلى أن اعتزل عام 2006 وتوجه لفعل ما يحبه.
قسوة النمو
إن قصة آغاسي تسهم في توضيح الجانب المظلم من الموهبة والعبقرية، إذ يعتبر واحداً من الذين دفعهم آباؤهم بقوة، وتوقعوا منهم أن يكبروا ليصبحوا نجوماً، وعليه فقد يصل الطفل في مرحلة نضجه وبلوغه إلى استنتاج مفاده أن كونه معجزة هو لعنة.
لكن عازف البيانو الصيني لانغ لانغ، الذي يعتبر معجزة بامتياز فلديه وجهة نظر مختلفة، فعندما أجريت معه مقابلة سأل عما وصف بأساليب والده الوحشية، التي تضمنت مطالبته بالانتحار، ورفض أي مديح، وإخضاعه المذل بأنها تعتبر بمثابة إساءة معاملة الأطفال في أميركا، أجاب لانغ "إذا كان والدي قد ضغط عليَّ بهذه الطريقة ولم أقم بعمل جيد، لكان ذلك بمثابة إساءة معاملة الأطفال، وكنت سأصاب بصدمة نفسية، وربما كنت تدمرت".
ويتابع "لقد كان من الممكن أن يكون أقل تطرفاً، وربما كنا سنصل إلى المكان نفسه، ولكن كان لدينا الهدف نفسه، وبما أن كل هذه الضغوط ساعدتني في أن أصبح موسيقياً مشهوراً عالمياً، وهو مما أحب أن أكون عليه، أود أن أقول إنه بالنسبة إليَّ، كانت في النهاية طريقة رائعة للنمو".
عبقرية موقتة
ولكن ليس كل الأطفال العباقرة والموهوبين يظلون كذلك عندما يتقدمون في السن، فوفقاً لبعض الباحثين، لا تنتقل عادة معجزات الطفولة إلى مرحلة النضج، وذلك استناداً إلى عديد من الدراسات، فإن الأطفال الموهوبين يتخلفون عن الركب لأنهم لا يبذلون جهداً كافياً.
وبحسب الأستاذ في جامعة سان فرانسيسكو، جيم تايلور، فإن السبب في ذلك هو أن الأطفال الموهوبين ينجحون في وقت مبكر من حياتهم بجهد قليل أو من دون جهد، وقد لا يتعلمون تحمل مسؤولية إنجازاتهم، وقد لا يتعلم هؤلاء الأطفال ربط الجهد بالنتائج نتيجة لذلك، كما يعتقد بعض الأطفال أن بإمكانهم تحقيق النجاح من دون بذل أي جهد.
وهذا ما تؤكده أستاذة علم النفس في كلية بوسطن ومؤلفة كتاب الأطفال الموهوبين، إلين وينر، فتقول "يفقد عدد لا يحصى من الأطفال المعجزة الاهتمام بمجال موهبتهم ويتسربون من المدرسة، فقط عدد قليل منهم يصبحون عباقرة بالغين مبدعين، إذ من المستحيل التنبؤ بالمسار الذي ستتخذه الحياة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذكر الباحثون "أن كون الطفل معجزة هو نعمة ونقمة في الوقت ذاته، فبعد بضع سنوات يجد الأطفال المعجزة أنفسهم في كثير من الأحيان بمفردهم ومن دون أصدقاء، لأنهم يكافحون من أجل التكيف مع البيئة المحيطة بهم، بينما يستمتع الأطفال الآخرون في مثل سنهم بالتلفزيون والرحلات، فإنهم يقضون طفولتهم في صقل هذه المواهب، ونتيجة لذلك فإنهم يفشلون في إظهار السمة الاجتماعية، والرغبة المستمرة في التأقلم، وأن يكونوا طبيعيين مثل الشباب الآخرين".
إرهاق التوقعات العالية
لا تقتصر المثابرة على الاستمرار عندما تصبح الأمور صعبة فحسب، بل يشمل القدرة على قياس ما وصلت إليه في هذه العملية، إذ سيشعر كثير من الأطفال بالإحباط لأنهم يشعرون وكأنهم يعملون إلى الأبد ولا يمكنهم تقدير مدى قربهم من إنجاز العمل.
سيشعر الأطفال الموهوبون بالإرهاق وبأنهم لا يمتلكون مجموعة المهارات اللازمة لإنهاء المهمة لأنهم ارتكبوا عديداً من الأخطاء على طول الطريق، أو وصلوا إلى حاجز لأنهم ارتكبوا أخطاء مهملة، أو سلكوا طريقاً لم يكن من المفترض أن يسلكوه.
وغالباً ما يعاني الأطفال الموهوبون التوقعات العالية، والدافع نحو الكمال، وأطناناً من الضغط الخارجي، ناهيك بالمزاج الحساس للغاية، ونتيجة لذلك يعاني عديد من الأطفال الموهوبين ما يعرف بإرهاق الأطفال الموهوبين، وهو يحدث عندما يعاني الطفل الموهوب الإرهاق والإحباط وتضاؤل الدافع بسبب الضغط المستمر للتفوق وتلبية التوقعات العالية، وذلك بحسب المتخصصة في الطب النفسي للأطفال مونيكا روتس.
وتتابع "عندما يحدث هذا يستسلم عديد من الأطفال، إذ تظهر عليهم علامات التعب، وهو نوع من الاستنزاف والإرهاق العقلي والعاطفي والجسدي الذي يحدث نتيجة الاضطرار إلى الأداء طوال الوقت مع المستوى الشديد من التوتر والتوقعات".
بين التحدي الأكاديمي والشهرة
ومن إحدى النقاط أنه غالباً ما يجد الأطفال الموهوبون أنه من السهل جداً تقديم أداء أكاديمي جيد عندما يكونون صغاراً، إذ لا يكون عبء العمل ثقيلاً، ولكن عندما تكون التوقعات أعلى وتكون أعباء العمل أكثر أهمية، يبدأ الأطفال الموهوبون في المعاناة، كما تقول بيكا والاس طبيبة نفسية للأطفال في مستشفى الأطفال في نيو أورليانز.
وتشرح قائلة "يصبح هذا بمثابة صراع بالنسبة إلى الطلاب الموهوبين، حيث تصبح المواد التعليمية أكثر صعوبة ويصبح منحنى التعلم أكثر انحداراً، ويحدث هذا غالباً عندما ينتقل الطفل الموهوب من كونه الأول في صفه إلى متوسط المستوى، كما هي الحال عند انتقاله إلى برنامج أكاديمي أكثر تحدياً".
وبما أننا نحيا في عصر الصورة وانتقالها بسهولة في غضون ثوان عبر العالم، فإن وضع هؤلاء الأطفال تحت الأضواء جعلهم يدفعون كلفة عالية، فعلى رغم جاذبية الشهرة فإنها بالنسبة إلى الأطفال عالم مبهر ومخيف في الوقت نفسه، إذ يواجه الأطفال ضغوطاً هائلة للأداء وتلبية التوقعات العالية للمعجبين وأولياء الأمور.
ويمكن أن يؤدي هذا التدقيق المستمر إلى القلق والاكتئاب ومشكلات الصحة العقلية الأخرى، كما يمكن أن يكون هناك انتهاك للخصوصية وهو أمر مؤذ، مما يؤدي إلى الشعور بالعزلة أو الافتقار إلى الهوية الشخصية.
وإن أصبح الطفل نجماً حقيقياً سيكافح في الانتقال إلى مرحلة البلوغ ويواجه تراجع شعبيته مع تقدمه في السن، وحينها يمكن لأزمة الهوية هذه أن تؤثر بصورة عميقة في حياته المهنية والشخصية.