خلال الثلاثينيات والأربعينيات أمضت أغاثا كريستي أعواماً من حياتها في العراق وسوريا رفقة زوجها عالم الآثار ماكس مالوان. وفي بغداد كانت كثيراً ما ترتاد مكتبة الأكاديمية البريطانية، حتى أصبحت تلك المكتبة تقترن بذكرى الكاتبة الشهيرة التي ما زالت رواياتها وقصصها تتربع على عرش أدب الجريمة والغموض، وتحقق أعلى المبيعات.
في خضم حرب الخليج الثانية عام 1991، أغلقت الأكاديمية إلى الأبد، والآلاف من كتبها نقلت إلى السفارتين البريطانية والفرنسية لخزنها. وقبل أعوام قليلة أهدت الحكومة البريطانية تلك الكتب إلى متحف البصرة، وقررت الحكومة المحلية في البصرة عرضها في جناح خاص سيفتتح بعد أيام أو أسابيع قليلة، وإلى جانب الكتب يحتوي الجناح الذي يحمل اسم أغاثا كريستي على كرسي ومنضدة من مقتنياتها.
ساعدت جامعة البصرة في صيانة بعض الكتب المتضررة تمهيداً لعرضها في المتحف (اندبندنت عربية)
كتب قديمة نادرة
يقول المدير السابق لدائرة الآثار والتراث في البصرة قحطان العبيد لـ"اندبندنت عربية"، "استلمنا الكتب موضبة في 55 صندوقاً، وعددها بالآلاف، منها كتب إنجليزية نادرة من القرن الـ18"، مضيفاً أن "عملية تصنيفها وفهرستها أنجزت، والخطوة اللاحقة عرضها إلى الجمهور للاستفادة منها معرفياً".
وضمن استعداداتها لافتتاح الجناح، أعلنت الحكومة المحلية في البصرة تأسيس مكتبة في متحف البصرة الحضاري ترتبط إدارياً بالمكتبة المركزية العامة في المحافظة، ووجه نائب محافظ البصرة ضرغام الأجودي بتكليف موظفين اختصاصيين في إدارة المكتبات بالعمل فيها.
منجز ثقافي وسياحي
وبحسب الأجودي، فإن "الجناح الجديد يعد منجزاً ثقافياً لأنه يكتسب قيمة مهمة، كما يمثل إضافة نوعية إلى متحف البصرة الحضاري تعزز من أهميته السياحية"، موضحاً أن "بعض الكتب كانت متضررة بسبب قدمها وظروف خزنها، ولذلك ساعدت جامعة البصرة في صيانتها تمهيداً لعرضها في المتحف".
ويعد متحف البصرة الحضاري أحد أهم المتاحف في العراق منذ افتتاحه بتمويل بريطاني عام 2016، ويضم مئات القطع الأثرية التي تعود إلى الحضارات السومرية والبابلية والآشورية والساسانية والإسلامية، ويشغل المتحف أحد القصور المطلة على شط العرب.
اتخذت أغاثا من بعض مدن العراق فضاء مكانياً لعدد من أعمالها الأدبية (اندبندنت عربية)
زوجة عالم آثار بارع
كانت أغاثا ترغب بزيارة العراق لتغذية مخيلتها بمشاهد وانطباعات عن حياة العرب وآثار الحضارات القديمة، وفي عام 1930 وصلت إلى بغداد، وكان عمرها 39 سنة، وسرعان ما تعرفت على ماكس مالوان الذي كان عمره 26 سنة، ويعمل عضواً في بعثة بريطانية للتنقيب عن الآثار في مدينة أور السومرية، وقد رافقها خلال زيارتها إلى عدد من المدن، من بينها مدينة كربلاء التي اضطرا عند وصولهما إليها ليلاً إلى المبيت في مركز شرطتها، إذ خصصت زنزانة لكل منهما، ثم رافقها في رحلة عودتها إلى لندن بواسطة قطار الشرق السريع، وهناك طلب يدها ووافقت، فتعمق ارتباطها بالعراق بحكم عمل زوجها فيه، الذي يفتخر في مذكراته بأنه قلب مئات آلاف الأطنان من التراب بحثاً عن الآثار.
لازمت أغاثا زوجها في معظم بعثات التنقيب التي شارك فيها بعد زواجهما، منها رحلتهما إلى سوريا التي بدأت عام 1934، وأعمال التنقيب التي أشرف عليها خلال عام 1949 في نينوى، التي شملت قصر آشوربانيبال، وقلعة شلمنصر الثالث في مدينة نمرود (كالح) التي تعد درة الحضارة الآشورية.
أغاثا في مذكرات زوجها
عن التنقيب في مدينة نمرود، يذكر مالوان في الفصل الـ18 من مذكراته أن "أغاثا كانت سخية دائماً، ونموذجاً للانسجام، فقد ساعدت في إصلاح العاجيات، ووضع الفهارس للقى الأثرية، كما ساعدت في التصوير الفوتوغرافي". أضاف "شيدنا غرفة صغيرة خصيصاً لها في نهاية البيت القريب من موقع العمل، وكانت تجلس فيها جزءاً من الصباح وتكتب رواياتها بسرعة، وتطبعها بآلة الطباعة مباشرة، وألفت ما يزيد على ست روايات بهذه الطريقة موسماً بعد آخر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم يمتد العمر بأغاثا لتقرأ مذكرات مالوان التي ختمها بهذه السطور "عندما وصلت إلى الصفحات القليلة الأخيرة من هذه المذكرات توفيت عزيزتي أغاثا بسلام وهدوء وأنا أدفع كرسيها المتحرك إلى غرفة الجلوس بعد تناول طعام الغداء. كانت صحتها تدهورت بعض الوقت، وحل الموت عليها مخففاً رحيماً من آلامها، على رغم أنه خلف لدي شعوراً بالفراغ بعد 45 عاماً من صحبة حنونة ومرحة. لا يعرف سوى القليل من البشر معنى العيش بانسجام إلى جانب ذهن مبدع واسع الخيال يلهم الحياة بالحيوية والتفاؤل".
العراق في رواياتها ومذكراتها
اتخذت أغاثا من بعض مدن العراق فضاء مكانياً لعدد من أعمالها الأدبية، ومنها رواية "جريمة في بلاد الرافدين" الصادرة عام 1936، ورواية "لقاء في بغداد" الصادرة عام 1951، وفي هذه الرواية قادها خيالها الجامح إلى جعل بغداد موقعاً لاجتماع سري وشيك لقادة الدول العظمى بعد الحرب العالمية الثانية، لكن هذه المعلومات تسربت إلى منظمة سرية تسعى إلى إحباط القمة، ثم تتوالى الأحداث المشوقة بوتيرة متصاعدة. وفي الرواية نفسها، تصف أغاثا تفاصيل دقيقة ملتقطة من الحياة العامة في بغداد، بما في ذلك صيحات أصحاب العربات في الأسواق الشعبية المزدحمة وهم ينادون المارة بنبرة تحذيرية بالك! بالك! Balek Balek.
أما في مذكراتها التي دونتها خلال وجودها في سوريا والعراق ونشرتها عام 1944 تحت عنوان "تعال قل لي كيف تعيش"، فقد سردت كثيراً من مشاهداتها وانطباعاتها والأحداث التي عاشت تفاصيلها، خصوصاً المتعلقة بأعمال التنقيب عن الآثار، مثل حادثة إلقاء رجال الجمارك القبض على اثنين من العمال المحليين ضمن البعثة التي كانت تنقب في تل براك، بتهمة تدخين سجائر عراقية (مهربة من العراق إلى سوريا). وبعد تدخل زوجها مالوان الذي كان قائد البعثة، وافق رجال الجمارك على إطلاق سراح العاملين بشرط طردهما وحرمانهما من أجرهما، لكن مالوان لم يوافق، وبعد مفاوضات تم الاتفاق على فرض غرامة عليهما تستقطع من أجريهما وتسدد إلى ضابط الجمارك، فأغدق عليهما مالوان المكافآت لإعانتهما على تسديد الغرامة وسط تأييد أغاثا لموقف زوجها.
وبشعور يفيض بالشوق والحنين، اختتمت أغاثا مذكراتها بالقول "إني أعشق تلك البلاد الجميلة والخصبة وأناسها البسطاء الذين يعرفون كيف يضحكون، وكيف يستمتعون بالحياة، وكيف يكونون كسالى ومرحين، والذين يتمتعون بالكرامة والطباع الحسنة، وبكثير من روح المرح، والذين لا يمثل الموت بالنسبة إليهم حدثاً جللاً. أتمنى أن أعود إلى هناك، ولن تكون الأشياء التي أحببت قد رحلت عن هذه الأرض".