فوق رمال الصحراء الكبرى بالجزائر، رسم "الطوارق" خريطة عناق مع الطبيعة، لفحتهم شمس الجنوب لكن أجدادهم تعايشوا معها وخاضوا معارك مع الحياة على كل شكل ولون، رحلة صعبة وشاقة لهم لكنها مثيرة وسعيدة أيضاً، أما شبابهم اليوم فينظرون إليها باعتبارها رمزاً للفقر والحرارة فقط.
"الطوارق" اسم مشتق من الكلمة الأمازيغية "تارقة" التي تعني الساقية أو منبع الماء، إلا أنهم يفضلون تسميتهم "إيماجيغن" أي الأمازيغ بالعربية، وبـ"إيموهاغ" أي الشرفاء الأحرار، ويتحدثون باللغة الطارقية بلهجاتها الثلاث "تماجق" و"تماشق" و"تماهق" مستخدمين في ذلك أبجدية خاصة بها تسمى "تيفيناغ" مؤلفة من 24 حرفاً.
في عصور ما قبل التاريخ، اشتهر "الطوارق" بـ"الجرمنتيين"، ثم في أوائل العصر الإسلامي بات لقبهم "الملثمين"، وهم الذين استوطنوا الصحراء الكبرى بين الجزائر ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وليبيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يلقبون بـ"الرجال الزرق" بسبب ارتدائهم الملابس الزرقاء؛ إذ يتلثم "الطارقي" عند تجوله في الخارج بقطعة قماش يصل طولها إلى خمسة أمتار تسمى "تاكلموست"، فمن العيب في تقاليد مجتمعهم أن يظهر الرجل فمه للآخرين، لدرجة أنه لا يرفع اللثام حتى عند تناول الطعام.
ينام "الطارقي" بعمامته ولا يتركها في أي وقت من ليل أو نهار، أما اللون الأزرق دون سواه، فقد أجرى باحثون في جامعة كاليفورنيا الأميركية اختبارات حول تأثير بعض الألوان على حالة الإنسان، واستنتجوا أن اللون الأزرق يخفف التعب ويزيد الحيوية.
جنس أبيض بدوي
عرقياً يوصفون بـ"جنس أبيض مع ميل إلى السمرة"، وقد ظلوا إلى عهد قريب خبراء الصحراء الكبرى العارفين بمسالكها والمؤمنين لحركة القوافل فيها، أعانهم على ذلك صبرهم وشجاعتهم ومعرفتهم بأماكن الماء وإتقانهم الاهتداء بالنجوم في تحركاتهم.
حياتهم يحكمها نظام عتيق من التقاليد والعادات ورثوها عن أجدادهم وفرضتها الطبيعة الصحراوية القاسية، وفي حين يستقر البعض في بيوت طينية، تعيش الغالبية في خيام لكثرة الترحال، وهم الذين يعتمدون على تربية الإبل وتجارة القوافل والمقايضة مع دول جنوب الصحراء.
لكن مع اندماجهم في المجتمع الحضري تغير حالهم لا سيما من الجيل الحالي، وأصبحوا يشتغلون في مختلف القطاعات، ويحتلون عديد المناصب بمن فيها برلمانيون وأعضاء مجلس الأمة ومديرون ومسؤولون سامون وإطارات في الجيش الجزائري، مما جعلهم في مكانة مرموقة داخل المجتمع.
اختلاف أصولهم
عدة رحالة وباحثين ومؤرخين كتبوا عن "الطوارق"، لكن يعتبر ابن خلدون أشهر من كتب عن أصلهم، واهتم بدراسة أجدادهم، وقد ردهم إلى أصول عربية نزحوا من جنوب الجزيرة العربية منذ عهود قديمة قبل الفتح الإسلامي.
ابن خلدون ذكر أيضاً أن قبائل "صنهاجة" البربرية هم أجداد "الطوارق"، وكانت تعيش أول الأمر في أقصى جنوبي المغرب العربي، ثم انتشر أفرادها في الصحراء الكبرى.
أما في العصر الحديث، فقد اختلفت الروايات ومعظمها فرنسية، إذ يذكر بعضها أن "الطوارق" هم أحفاد "الجرمنت" الليبيين، بينما يربطهم آخرون بـ"الهكسوس" الذين طردوا من مصر في عهد الفراعنة، وهناك من يشير إلى أنهم من أصل فينيقي.
"الطوارق" أيضاً مسلمون سنيون مالكيون، كان لهم دور في نشر الإسلام عندما أسسوا مملكة "أودغست" بجنوب موريتانيا، ومن بعدها دولة "المرابطين" التي ظهرت خلال القرنين الخامس والسادس الهجري في شمال أفريقيا، ثم مدينة "تينبكتو" التاريخية في شمال مالي، التي غدت من أكبر مراكز الإشعاع الحضاري والديني، ومركزاً فريداً من مراكز التجارة في المنطقة بأسرها.
يصعب تحديد عدد "الطوارق"، نظراً لغياب الإحصاءات الرسمية، وإن كانت بعض التقديرات تشير إلى ما يقارب 1.2 مليون نسمة، بينما تتحدث مصادر عن أكثر من نصف مليون نسمة يعيشون في جمهوريتي النيجر ومالي، و40 ألفاً في الجزائر، و150 ألفاً في ليبيا، ولا يزال 100 ألف منهم متنقلين فوق أرض صحراوية تزيد مساحتها على 1.2 مليون كم2.
للمرأة سلطة القرار
يمنح مجتمع "الطوارق" المرأة مكانة عالية واستقلالية كبيرة، واللافت أن أشهر شخصية في تاريخهم هي امرأة اسمها "تينهنان"، مؤسسة مملكة "الأهقار" في صحراء الجزائر، ولعل سفر الرجل باستمرار وغيابه لأيام أو أشهر، جعل المرأة الطارقية تعتمد على نفسها في القيام بشؤون العائلة وتربية الأغنام والماعز والإبل واستخراج الماء.
وتكشف أسرار مجتمع "الطوارق" أن للمرأة سلطة القرار وحق التملك واختيار الزوج، ومنها أن الزوج هو من يغادر البيت في حالات الطلاق، ولا يحق له أخذ أي شيء معه إلا ما جادت له به طليقته، كما أن النساء في مجتمع الطوارق يفتخرن بالطلاق لدرجة أن المرأة المطلقة تسمى "الحرة".
المتخصص في شؤون "الطوارق" بهاء الدين بالتو قال في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، إن هناك احتفالات ومناسبات وتقاليد لا يزال "الطوارق" يتمسكون بها جيلاً بعد جيل، مشيراً إلى مهرجان "سيبيبا" الذي يعتبر أحد أهم المواعيد لدى مجتمع الرجال الزرق.
ورأى أن هناك اختلافاً حول هذه المناسبة بين من يقول إنه احتفال بموت فرعون، ومن يعتقد أنه احتفال بالهدنة بين عرشين "زلواز" و"الميهان" بعد حروب طويلة، لكن الاعتقاد الأول هو المرجح، ما يكشف عن استمرار الأساطير داخل المجتمع الطارقي، مشيراً إلى أن احتفالات "السيبيا" هي عبارة عن رقصات بين قريتين عريقتين في منطقة "جانت" جنوب الجزائر، هما "زلواز" و"الميهان".