أبو الراغب: عبد الله الثاني حذّر بوش من فتح أبواب جهنم... والبديل سيكون الفوضى

منذ 1 سنة 188

رئيس الوزراء الأردني السابق لـ«الشرق الأوسط»: حسين كامل نقل للأميركيين معلومات «مبالغاً بها» عن أسلحة صدام

سلّة من المعلومات يكشف عنها رئيس الوزراء الأردني الأسبق علي أبو الراغب، للمرة الأولى، في حديث صريح يتعلق بكواليس الحصار على العراق والذي انتهى بالغزو الذي قاده الأميركيون في مارس (آذار) من عام 2003، لتبدأ بعد ذلك الفوضى التي حذّر منها الأردن في أكثر من مناسبة، وأمام دول «صناعة القرار» في الغرب. تسلّم أبو الراغب منصبه لنحو 40 شهراً، في مطلع عهد الملك الأردني الجديد وقتها الملك عبد الله الثاني، بعد انتقال سلس لولاية العهد من عمّه الأمير الحسن بن طلال له. وهو حظي بصحبة الملك الجديد في العديد من زياراته. كانت فترة عمل رئيس الوزراء الأردني السابق والممتدة من مطلع عام 2000 وحتى خريف عام 2003، كافية ليكون عارفاً بكواليس ثلاث قضايا؛ واحدة أثّرت على الداخل الأردني وهي الانتفاضة الثانية، والثانية تركت أثراً على العالم مع بدء «الحرب على الإرهاب» بعد إسقاط برجي مركز التجارة في نيويورك بطائرتين مخطوفتين، والثالثة كانت غزو العراق. وتتضمن رواية أبو الراغب لهذا الحدث الأخير محاضر اجتماعات سرية ومعلنة مع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وقياداته في تواريخ متفرقة. يروي أبو الراغب، عبر «الشرق الأوسط»، إرهاصات غزو العراق ومنطلقات شرره، تزامناً مع الذكرى العشرين لحرب لم تدمر العراق وحسب، بل استدعت تاريخاً بعيداً من الثأر والانتقام لنظام أحكم سيطرته، وكان سيف غضبه مسلطاً على أعناق خصومه؛ دولاً وتنظيمات، ومعارضة وأفراداً.

لا تغيب اللحظات العصيبة التي رافقت الغزو الأميركي للعراق بدءاً من ليلة 19 مارس 2003، عن ذاكرة رئيس الوزراء الأردني الأسبق علي أبو الراغب، بما حملته من مقدمات مصحوبة بالفوضى بعد سقوط نظام صدام حسين. وفي حديثه لـ«الشرق الأوسط»، يسعى أبو الراغب إلى تفكيك بعض ألغاز تلك الحرب التي أحدثت تغييرات دراماتيكية على مستوى العراق ودول الجوار والمنطقة في شكل أشمل.

أبو الراغب الذي كان رئيساً للوزراء في تلك الفترة، شهد لقاءات سياسية حاسمة قبل وإبّان وقوع هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، التي دفعت الولايات المتحدة لاستحضار خرائطها مهددة بتغيير وجه المنطقة، وبات الحديث عن الحرب أقرب من أي حديث آخر، وصار مفهوم الحرب على الإرهاب يتصدّر الأجندة الأميركية، على أن يكون إسقاط نظام صدام حسين عنواناً رئيسياً للمرحلة، وسط اتهامات أميركية للعراق بامتلاك أسلحة دمار شامل.

تلك الاتهامات لم تستند إلى معلومات دقيقة في حينه، وفق ما يؤكد أبو الراغب لـ«الشرق الأوسط»، مشيراً إلى أن صوت الحرب تقدّم على صوت المنطق، ولم تنجح بلاده في تخفيف حدة الاندفاع الأميركي صوب غزو جاء بكارثة انسحبت على أكثر من جبهة، ووضعت خصوم واشنطن في مواجهة معها في شوارع العراق ومناطقه المختلفة.

يقول أبو الراغب إن محاولات «الأردن الرسمي ثني الإدارة الأميركية عن إشعال الحرب في المنطقة لم تنجح»، مستشهداً بالاجتماع الملكي الذي حضره هو شخصياً وجمع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بالرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن، حيث قال الأخير صراحة: «لن نقبل الحياد؛ من ليس معنا فهو ضدنا». ويعلّق أبو الراغب قائلاً: «عندها أدركت بأن نوايا الحرب أقوى من نوايا التهدئة، وأن غزارة التقارير ضد أسلحة العراق أشد فتكاً من أسلحة العراق نفسها».

ويضيف أبو الراغب: «لقد حاول الملك (الأردني) تحذير بوش من فتح أبواب جهنم إذا وقع غزو العراق، وأن بديل النظام سيكون الفوضى والتطرف والتناحر المذهبي». ويقول إن هذا ما حصل بالفعل، بل الأكثر من ذلك سمح الغزو بـ«مد أيادي الجوار، بثأره النائم، للانتقام من جدار العراق الفاصل في وجه مطامع إيران في المنطقة ومساعي بث القلق وعدم الاستقرار».

وعن دقة المعلومات المتوافرة لدى الإدارة الأميركية عن أسلحة الدمار الشامل التي يملكها العراق، يتذكر علي أبو الراغب اجتماعات حسين كامل، صهر صدام، الذي لجأ إلى عمّان عام 1996، مشيراً إلى أنه نقل وقتها لمسؤولين أميركيين معلومات «مبالغاً بها» عما يمتلكه الرئيس العراقي. ويضيف أن حسين كامل قبل برعاية الـ«سي آي إيه» لمشروعه الانقلابي على صدام، لكنه رفض عرضهم فتح قنوات اتصال مع «الموساد». وبعد تبدد حلمه في خلافة صدام، عاد حسين كامل لبغداد حيث قُتل برصاص أقاربه. وبالنسبة لأبي الراغب، بدأت خطة «إسقاط العراق» على امتداد عقد التسعينات من القرن الماضي، لكن اللمسات الأخيرة جاءت في مطلع ألفية مشبعة بالحروب والكوارث.

يقول أبو الراغب في هذا الإطار: «لقد كان البنتاغون مليئاً بالمعلومات المغلوطة عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، والتي كان مصدرها (السياسي العراقي الراحل) أحمد الجلبي. والأهم من ذلك، كان صدر نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني معبأ بكره صدام، وكان يبعث برسائل ضاغطة تجاه جورج بوش الابن الذي يناصب صدام الكره أيضاً، هذا علاوة عن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد الذي شكّل مع تشيني ثنائية الموقف المتطرف من صدام (...). كذلك لم يبعث صدام برسائل جادة عبر وسطاء لتخفيف حدة الاحتقان الأميركي المشبع بالتضليل، على الرغم من مبادرات غربية فرنسية، وعربية أيضاً، على هذا الصعيد».


تعنت صدام في مواجهة جدية الحرب


لم يأبه صدام حسين بكل الرسائل التي وصلته على مدى سنوات الأزمة منذ غزو الكويت، وظل متمسكاً بمواقفه التي كان من الواجب أن تحظى بالمرونة التي تجنّبه والعراق ويلات الحرب والدمار وتداعيات الخطر والحصار، بحسب أبو الراغب. يقول: «صدام حسين ظل وكأنه قادم للتو من مدرسة البعث التي تسعى بعقيدتها إلى تحدي أميركا واجتثاث إسرائيل، وتريد للعرب كلمة ودوراً مؤثراً رغم استحالة التوافق على أكثر من ملف وقضية». ويتابع: «السياسة تغيّرت أدواتها (...). رجال صدام لم يكونوا واقعيين في طرحهم، وظلت الشعارات تتحكم بعواطفهم مغيّبةً صوت العقل والحكمة الذي جاءهم من أكثر من شقيق وصديق». ويؤكد أن «أسلحة الدمار الشامل في العراق ذريعة استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية لإحكام الحصار على صدام. الأردن كسر هذا الحصار لصالح دعم الأشقاء العراقيين في كل شيء باستثناء السلاح». ومعلوم، في هذا الإطار، أن أبو الراغب شخصية تُعتبر أصلاً قريبة من صدام حسين، وساهم في أكثر من مناسبة خلال عقد التسعينات من القرن الماضي في تسهيل شروط التفاوض مع العراق اقتصادياً، ورفع حجم المنحة النفطية العراقية لبلاده. كما أنه خفف من حدة الخلافات السياسية بين حكومات البلدين في أكثر من مناسبة.


زيارة سرية في مرحلة انتقالية


على الرغم من أن أبو الراغب كان قريباً من صدام ورجاله، فإنه لم يُعجب بهرولتهم نحو «التصريحات الشعبوية»، وأراد في أكثر من مناسبة أن يحثهم على تقديم تنازلات معقولة «تجنب العراق الحرب التي صارت قريبة، وبذرائع كثيرة». في هذا الإطار، يكشف أبو الراغب، للمرة الأولى، أنه كان في زيارة سرية لبغداد قبل تكليفه بتشكيل الحكومة بأيام، وحمّله الملك عبد الله الثاني رسالة إلى صدام تستفسر عن أسباب بعض الخلافات في العلاقة بين البلدين، فرد عليها صدام مستعرضاً بعض التضييقات الأمنية على عراقيين رسميين، والرعاية الأمنية لبعض معارضيه، وهو أمر كان مصدر إزعاج كبير للرئيس العراقي. لكن أبو الراغب، كما يوضح، استطاع أن يخفف من غضب صدام واستعاد كسب وده، مشيراً إلى أنه كان يعرف من يقف وراء توتر العلاقات الأردنية - العراقية وقتها، مشيراً إلى مسؤول أمني تم إبعاده وحوكم لاحقاً على خلفية جرائم اقتصادية. وتلك الزيارة السرية ما زال يحتفظ أبو الراغب بمحاضرها.

في أولى زياراته الرسمية لبغداد وهو رئيس للوزراء، التقى أبو الراغب طه ياسين رمضان وتحدث له عن كلام أدلى به السفير البريطاني في عمّان الذي كان قد أبلغه بأن موافقة العراق على مشروع قرار مجلس الأمن رقم 1284 المتعلق بتفتيش المنشآت العراقية سيضمن رفع الحصار تدريجياً عنه خلال 3 - 6 شهور، لكن رد طه ياسين رمضان كان صادماً عندما أجاب: «نحن نرفض دخول جواسيس لمنازلنا وإهانتنا؛ والله لو قامت حرب عالمية ثالثة لن نقبل مثل هذا القرار». واستفاض رمضان في عرض حلوله لكسر الحصار بقوله: «افتحوا الحدود من جانبكم وسيلحق بكم كل العرب». ويقول أبو الراغب: «لما سمعت هذا الموقف غير العقلاني أجبته باختصار: نحن لسنا دولة عظمى». وعندها انتهى الحوار الذي وصفه أبو الراغب بـ«غير المجدي». لكن أبو الراغب يضيف: «في اليوم التالي للزيارة التقيت صدام حسين وتحدثت له عن مشروع القرار، فقلل من أهميته ولم يطل الحديث حوله، وكان خطئي أنني تركت طه ياسين رمضان يبلغه قبلي. كان يجب أن أفتح الموضوع أمامه، فمن الممكن التأثير عليه بمعزل عن مبالغات طه ياسين رمضان».

يتذكر أبو الراغب، هنا، سلسلة محاولات أردنية لإلغاء احتمالات حرب منتظرة، مشيراً إلى موقف طارق عزيز قبل يوم واحد من اجتماع قمة الملوك والزعماء العرب في عمّان نهاية مارس عام 2001، وهو موقف «كان فيه عزيز متشدداً بعكس مرونته الدبلوماسية التي عُرفت عنه في بدايات الأزمة... فلطالما شكّل موقفه دعماً لنا في مستويات الاعتدال».

ومن بين صفحاته وملفاته، قرأ أبو الراغب لـ«الشرق الأوسط» أن أعضاء الوفد الأردني والوفد السعودي والأمانة العامة للجامعة العربية بذلوا جهداً متميزاً بإعداد مسودة قرار يتعلق بالمصالحة بين العراق والكويت، ومن النقاط التي تمت الموافقة عليها مطالبة القمة العربية لمجلس الأمن والأمم المتحدة برفع الحصار عن العراق، كما تضمن القرار تسيير الطيران المدني بين الدول العربية والعراق. كذلك تضمن مشروع القرار بنداً يتعلق بألا يكرر العراق غزوه للكويت ويلتزم بحماية وسيادة الكويت، وهذا البند الأخير كان موضع خلاف في المؤتمر لمعارضة الوفد العراقي له.

ويضيف رئيس الوزراء الأردني أنه «في البداية بدت الأجواء السائدة في المؤتمر متفائلة لجهة تحقيق المصالحة بين الأشقاء في العراق والكويت، ويعود العراق إلى موقعه في العالم العربي والدولي». وفي هذا السياق، قدّم أبو الراغب شهادة إنصاف بحق الراحل الشيخ صباح الجابر الصباح، وزير خارجية الكويت آنذاك وأمير الكويت لاحقاً، لموافقته على مشروع القرار، لافتاً إلى أنه امتلك «سعة صدر»، وكان لديه «موقف متقدم في المصالحة» مع العراق. ويضيف: «للأسف، جاء خبر رفض الوفد العراقي للبند المتعلق بالكويت في مشروع القرار، وهذا الموقف الغريب أثار حينئذ الاستغراب الشديد، وعلمنا للأسف أن صاحب القرار كان الراحل نائب رئيس الوزراء طارق عزيز».

لم تتوقف محاولات الأردن عند ذلك الحد، كما يقول أبو الراغب. يوضح قائلاً: «أذكر جيداً في مساء ذلك اليوم أن الملك عبد الله الثاني حاول أن يستدرك الأمر ويُقنع الوفد العراقي بالقرار. وتم عقد اجتماع برئاسة الملك وحضوري وكذلك وزير الخارجية عبد الإله الخطيب، وحضر من الجانب العراقي عزت إبراهيم وطارق عزيز والصحاف. تم التداول بالأمر واحتدم النقاش بيني وبين الراحل طارق عزيز، وأبديت استغرابنا من الموقف العراقي. أبدينا لهم أن هذه الفرصة تاريخية وتشكل اختراقاً للوضع القائم بإنهاء المعاناة التي قاسى ويقاسي منها الشعب العراقي، ولكن للأسف تمسّك طارق عزيز بموقفه. وفي آخر محاولة في صباح اليوم التالي، أصر الملك على منح الوفد العراقي فرصة أخيرة للحصول على توافق حول مشروع القرار، وللأسف لم تنجح».

يقول أبو الراغب: «كنت على يقين في ذلك الوقت أن العراق فقد فرصة ذهبية لإخراجه من فك الحصار، وكذلك تفادي احتلال العراق الذي تم 2003». ويضيف: «لم أستوعب حينها موقف الراحل طارق عزيز، وحتى الآن لا أعلم ولا أستطيع أن أتفهم هذا الموقف».

هل يعتقد أن القرار العراقي كان قراراً مستعجلاً دون العودة إلى القيادة في بغداد؟ يجيب أبو الراغب: «أنا على يقين بأن قرار الوفد العراقي كان من دون الرجوع إلى القيادة في بغداد، حيث لاحظت أن العديد من أعضاء الوفد العراقي كانوا يؤيدون مشروع القرار كما قُدم في البداية». ويتابع: «للتاريخ، الجانب الأميركي كان يتابع باهتمام مخرجات مؤتمر القمة العربية في عمّان، وخاصة بما يتعلق بالعراق... لقد ضاعت الفرصة لصالح المزيد من الأوراق في يد أميركا».

ويُقر أبو الراغب بأنه لم يكن صعباً الإدراك مع نهاية عام 2002 ومطلع عام 2003، أن الحرب أصبحت «مسألة وقت»، وأن العد التنازلي للمعركة التي غيّرت وجه المنطقة بدأ فعلاً، وسيكون ما قبل الحرب ليس كما بعدها. ومع ذلك، بدأ الضغط الأميركي يزداد و«أصبح الجميع على يقين بأن الولايات المتحدة ماضية في قرار الحرب ولا رجعة عنه، ولن تنجح كل التحذيرات التي انطلقت من أكثر من اتجاه (...). بالنسبة لي، كنت منشغلاً بالوضع المحلي وسط مزاج عام مضطرب، وتتقاسمه واقعية المشهد وأمنيات السلامة للعراق»، وسط دعوات إلى أن يتبنى الأردن موقفاً مشابهاً لموقفه في عام 1990 «في رفض التدخل الأجنبي والحرب على الأشقاء العراقيين».

في تلك الأيام، كان الأردن مقتنعاً بوجود نقاط ضعف في الجيش العراقي، وعدم جاهزيته للحرب، خصوصاً أن أسلحته كانت متهالكة، ولم يملك العراق القدرة على صيانتها. ويشرح أبو الراغب أن قوى العراق العسكرية كانت منهارة، و«المزاعم عن ترسانات أسلحة تحت الأرض كانت مجرد دعايات عسكرية من جانب العراقيين، وأمنيات في قلوب كل من كان في صف العراق».

يؤكد أبو الراغب أن بلاده لم تسمح للقوات البرية الأميركية بالوجود على الأراضي الأردنية، و«لكن بعد ضغط أميركي شديد وافق الأردن على إنشاء قاعدة جوية غير ثابتة لطائرات الهليكوبتر التي يريدون استخدامها لغايات غير عسكرية في منطقة الأزرق شرق البلاد... ولقد بالغت نخب سياسية أردنية في تضخيم ذلك، واعتبروا أن الأردن شريك في الغزو، وهذا ظلم كبير للموقف الأردني الذي التزم بالواقعية وابتعد عن العاطفة غير المجدية. لكن، في المقابل، كنا نُلح على أميركا ودول شقيقة بتأمين احتياجات المملكة الأردنية من النفط من مصادر أخرى، خصوصاً أمام حقيقة قطع إمدادات النفط العراقي عن الأردن إذا بدأت الحرب التي ستدمر ما تبقى من البنى التحتية في العراق».


ساعة الصفر ولقاءات اللحظة الأخيرة


قبل الحرب بفترة قصيرة، زار عمّان نائب الرئيس العراقي عزت الدوري، حاملاً رسالة شفوية من صدام حسين إلى الملك عبد الله الثاني، في طياتها طلب من عمّان ببدء وساطة لدى واشنطن. يقول أبو الراغب: «طلبت منه يومها أن يقول ماذا لدى العراق ليقدمه لتقريب وجهات النظر مع الولايات المتحدة الأميركية». ويضيف: «في تلك اللحظات، بقي الدوري يناور ولا يريد تقديم بنود واضحة، ويقول: نحن نقبل أن يتحدث جلالة الملك باسم العراق، ونحن موافقون على ما يرضى به. لكنني رفضت هذا الكلام، واعتبرت أن هذا ليس موقفاً واضحاً يمكن الاستناد إليه لوقف حرب تكاد أن تنشب. لم يمل الدوري من تكرار هذا الكلام عليّ، وكنت مستغرباً من كلماته التي لا تحمل أي مضمون يشي بتقريب مواقف الخصمين».

ويتابع أبو الراغب متذكراً تفاصيل ما حصل: «بعد كلام طويل سألته بحزم: ماذا لديكم؟ قلت للدوري وقتها إن الملك يريد رسالة واضحة، فأجاب: نتركها للملك. فتابعت الحديث: هل تقبلون بفكرة السلام مع إسرائيل مثلاً لكبح جماح التطرف الأميركي ضدكم؟ انتفض من موقعه وقال: عجوز في شوارع العراق لو قابلتني وأنا أتحدث عن السلام مع إسرائيل لبصقت عليّ. فقلت: ماذا نفعل برسالة منكم غير موقعة بكلام محدد وواضح، عليكم أن تكونوا عمليين في ممارسة الفكرة، ونحن جاهزون لحمل الرسالة وقتها. أنا لا أريد منكم سلاماً مع إسرائيل. أنا أريد أوراقاً تفاوضية تماطل فكرة الحرب وتبعدها. في اليوم التالي، التقى الدوري الملك عبد الله الثاني وأعاد طرح موقفه من فكرة الوساطة الأردنية خلال زيارة الملك لواشنطن، لكن الملك لم يجد في كلام الدوري أي موقف يمكن الارتكاز عليه كمنطلق للبحث في فكرة وقف سباق الحرب المنتظرة».

ويقول أبو الراغب: «قبل الحرب بأيام كنا في زيارة لدول خليجية منها الإمارات وقطر. علمنا من الإماراتيين عن ساعة الصفر في انطلاق الحرب، وهو ما كان معلوماً أصلاً، فقد كانت الحشود متأهبة والترسانة العسكرية الأميركية موجّهة (لبدء الغزو). عدنا محبطين. وكنت قد بادرت، قبل أشهر، بتخزين أكبر كمية من النفط، وفعلاً خزنّا 800 ألف طن. ولما سمعت ما أكده الإماراتيون عن ساعة الحرب، تذكّرت أن باخرة لا تزال في ميناء البصرة تتزود بالنفط، فطلبت أن تتم تعبئتها بالسرعة القصوى».

ويزيد رئيس الوزراء الأردني قائلاً: «إسناداً للفضل لأصحابه، حصلنا خلال شهور الأزمة على وعود خليجية، وكانت صادقة، بتزويد المملكة الأردنية بـ50 ألف برميل نفط من المملكة العربية السعودية، و50 ألف برميل تزودنا بها الكويت والإمارات. وهذا وحده كان كفيلاً بتأمين ملف الطاقة لبضعة أشهر، وهو الملف الذي كان سيضغط علينا لولا الدعم العربي، والمساعدات الأميركية التي وصلت دعماً لاقتصاد الأردن الذي ظل متمسكاً بموقفه من دعم معاناة الأشقاء في العراق، وطبقنا برنامج (النفط مقابل الغذاء)، وساهمنا مساهمة كبيرة في تخفيف وطأة الجوع الذي تسبب به الحصار الأميركي».


المشهد المحلي واضطرابات النخب


ويتابع أبو الراغب روايته: «أتذكر مع بدء أيام الغزو الأميركي أن السفير الأميركي في عمّان إدوارد غنيم زارني، فطلبت منه من باب التخفيف من الضغط الشعبي أن يعلن في تصريحات صحافية أن الأردن حمّله رسالة لإدارته تطالب بحماية المدنيين وضمان تزويد العراقيين بحاجتهم من الغذاء والدواء، لعل الشارع يرحم الموقف الرسمي الأردني الذي كان مثل (بالع السكين)... ففي كل الاحتمالات، كلفة الحرب سندفعها نحن من استقرارنا ومن اقتصادنا».

ويوضح: «استجاب السفير الأميركي، وقد أبلغنا الصحافيين بأن هناك زيارة للسفير الأميركي وتستطيعون سؤاله عن موقف الحكومة من الحرب. وقدّم السفير تصريحاته عندها». ويتابع: «في واحد من الاجتماعات مع وفد من وزارة الدفاع الأميركية في رئاسة الوزراء في عمّان، وكان بحضور (السفير) غنيم، انتقدت التعنت الأميركي وهاجمت ذريعتهم في الحرب بسبب امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وأنها خدعة ستجر الولايات المتحدة لحرب طويلة الأمد، والتزمت بموقف الملك عبد الله الثاني عندما تحدث عن فتح أبواب جهنم أمام الاقتتال المذهبي والحرب الشاملة وميلاد حركات الإرهاب التي تعيش في مستنقعات الفوضى».

ويقول رئيس الوزراء السابق إن «الضغط الشعبي بدأ يزداد في الأردن في تلك الأيام، وضاعف ذلك ما ذهب إليه رؤساء حكومات سابقون، خلال الأيام الأولى لبدء العملية العسكرية ضد العراق، في كتابة بيان مع شخصيات وطنية من مشارب سياسية مختلفة، يتضمن رفضاً لأن تُستخدم أراضي الأردن لضرب العراق. اتهموا الحكومة بأنها سمحت لقوات برية أميركية بالوجود على الأراضي الأردنية، لإسناد الحرب المتوقعة والغزو المنتظر». ويضيف أن الأسماء الموقعة على البيان لشخصيات ذات وزن شعبي، و«كان لا بد من الحديث معها بصراحة ومن قبل الملك حتى يتم توضيح الموقف الرسمي».

في اجتماع نادي رؤساء الحكومات الأردنية مع الملك عبد الله الثاني في القصر، انقسمت الآراء بين متفهم للموقف الرسمي الأردني ومَنْ عارضه بشدة، و«كنت متفهماً لجميع الآراء»، كما يقول أبو الراغب الذي يوضح أن «زيد الرفاعي وعبد الكريم الكباريتي وفايز الطراونة دعموا الموقف الرسمي، في وقت انتقد بشدة موقف الحكومة الجنرال مضر بدران والجنرال أحمد عبيدات وطاهر المصري وعبد الرؤوف الروابدة. وعندما اشتد النقاش، حاولت التدخل لتوضيح موقفنا، لكن الملك أنهى الاجتماع وهو غير مرتاح. وبعدها بثلاثة أيام، وصلت القوات الأميركية واحتلت بغداد».

ويشير أبو الراغب إلى أن ما زاد من حدة الموقف الشعبي في الأيام الأولى للغزو «ما جاء على لسان طه ياسين رمضان بأن الأردن يمنع مرور المساعدات للعراق بذريعة التفتيش الأميركي والأوامر الأميركية... عندها اتصلت بالسفير العراقي في عمّان صباح الياسين، وأبلغته بضرورة تصويب التصريحات العراقية. وبالفعل بادر هو بالخروج للإعلام الأردني ونفى ما قاله رمضان».

لا يريد أبو الراغب الخوض حالياً في تفاصيل المشهد المحلي، وتعامل الحكومة مع قضية الحدود الأردنية - العراقية التي بدأت تنشط فيها عمليات التسلل والتهريب، وبدأ «الخوف الحقيقي من تسلل عناصر إرهابية تُضمر الشر والسوء لنا». يقول إن الأرقام المتعلقة بتلك المرحلة لا تحضره اليوم، لكنها موضوعة في واحد من ملفاته.

ويوضح أبو الراغب كيف أنه اختبر الفصل بين موقفه السياسي وموقعه السياسي في الفترة الصعبة التي تولى فيها رئاسة الوزراء، قائلاً: «لو لم أكن في موقع المسؤولية لكنت انحزت للموقف الشعبي، مع التمسك بموقفي بأن العراق أخطأ عند غزو الكويت. لكنني كنت على اطلاع واسع بطبيعة الضغوط التي مورست على الملك عبد الله الثاني، وكان الخيار إما الاعتدال بحذر وإما التضحية باستقرار الأردن سياسياً واقتصادياً. فالتحالف مع الولايات المتحدة له كلفة، كما الانقلاب على التحالف له كلفة». ويضيف: «لقد كانت لحظة الغزو بمثابة ضربة لنا جميعاً وللجهود التي بذلناها من أجل منعه، لكن العراقيين أنهوا كل ذلك وأعطوا المبررات لأميركا».


العلاقة مع صدام... توافق وتنافر


ويسلّط أبو الراغب، في الحوار معه، الضوء على تاريخ علاقته بصدام حسين، قائلاً: «تعود معرفتي بصدام إلى مطلع تسعينات القرن الماضي. زرته عضواً في التجمع الديمقراطي عام 1990، وزرته نائباً ووزيراً بعدها. ولقد ذهبت إليه في زيارات متعددة لطلب المساعدة للحكومة، عندما كنت وزيراً للصناعة والتجارة والطاقة والثروة المعدنية في حكومتين مختلفتين. وفي يناير (كانون الثاني) من العام 1997، زرته وأنا وزير صناعة وتجارة، ومعي الوزير هاشم الدباس وزير الطاقة حينها، حاملين رسالة شفوية من الراحل الملك الحسين. استطعنا ترطيب الأجواء وإعادة توقيع بروتوكول المنحة النفطية بعد لقاء صدام الذي كان غاضباً وقتها من رئيس وزرائنا عبد الكريم الكباريتي. لقد كان دائماً إيجابياً في مواقفه معي». ويتابع: «لقد عرفت صدام ومن حوله، وكانت تربطني علاقات قوية بهم، ولا تزال علاقتي جيدة ببعضهم وهم أصدقاء حقيقيون. لا تتعارض مواقفي الإنسانية تجاه النظام العراقي السابق وموقفي السياسي من بعض سياساته المتعنتة والمتشددة في أزمة حرب ضربت أنحاء المنطقة وصدّرت الإرهاب في أكثر من اسم واتجاه. إن حرب الخليج الثانية شكلت منعطفاً خطيراً في منطقتنا، وهي التي أوصلت العراق لحرب استنزاف استخدمت فيها جميع الأضداد العراقية، وتسببت في حالة عدم استقرار لجواره العربي، خصوصاً بعد الانتقام الإيراني المزدوج من صدام ومن الولايات المتحدة، حيث استطاعت (إيران) أن تحظى بنفوذ على حساب ضعف العراق أمنياً واقتصادياً وسياسياً».

ويتوقف أبو الراغب في روايته عند تلك اللحظات التي وصله فيها خبر وصول القوات الأميركية إلى بغداد. فقد كان في منزله وقتها مدير المخابرات سعد خير ورئيس الديوان الملكي فيصل الفايز، و«كان النقاش حاداً في جوانب متعددة تتعلق بطبيعة الموقف الحكومي من التعامل مع الحرب الدائرة، وضرورة بناء سردية تستعرض بعقل وتوازن جهود الأردن في دعم العراق وتجنيبه الحرب. وفوراً طلبت إبلاغ الملك بهذا التطور، وكان مسار الأحداث متوقعاً، لكن ما أضر الجميع وقتها كانت خطة بول بريمر في حل الجيش العراقي لتصدق نبوءة الأردن، ويدخل العراق في حرب أهلية مذهبية طائفية عرقية لا يزال يسعى للاستشفاء منها».

ويكرر المسؤول الأردني السابق دفاعه عن نفسه في معركة التعارض بين موقفين: دعمه العراق في تسعينات القرن الماضي، واستسلامه للضغوط لاحقاً. يقول: «الظروف متنوعة ومختلفة. في عام 1990، وبعد دخول العراق الكويت، وتشكل التحالف الدولي والعربي ضد العراق، أخذنا كأردن موقفاً واضحاً فيه بُعد عروبي قومي، ودفعنا ثمن ذلك الموقف، ثمناً كبيراً. وبصراحة، لولا حكمة الراحل الملك حسين وقدراته بعد تلك المرحلة لما استطعنا مواجهة الضغوط الدولية والعربية الكبيرة. كنا محاصرين بصورة كبيرة، وكان لالتفاف الشعب الأردني حول الملك الأثر الرئيسي في مواجهة تلك الضغوط والآثار الصعبة على الأردن». ويزيد موضحاً: «أصلاً الموقف الأردني في عام 1990 لم يكن مع احتلال العراق للكويت، بل كان ضده على طول الخط. لكننا كنا ضد تدويل الأزمة والتدخل الأجنبي والحرب التي كنا نرى فيها شراً كبيراً على العراق والكويت والمنطقة، وأنها ستجر كوارث كثيرة، وهو ما حصل في الواقع بعد تدويل الأزمة واللجوء إلى الحل العسكري. لقد حاولنا شرح موقفنا الرسمي والشعبي برفض احتلال بلد عربي بلداً آخر، لكن صوت القصف الأميركي كان أقوى من صوتنا».

ويقول: «بعد ذلك، تعاملنا، كأردن، مع العراق ليس فقط مع حكم أو نظام، بل مع شعب عراقي شقيق، تربطنا به علاقات قوية وتاريخية. لا أنكر على صدام مواقفه معنا، فقد كان وزراء عراقيون يقولون لي إنه في اجتماعات الحكومة العراقية، يحمل بعض الوزراء والمسؤولين على الأردن وحكومته، ويوجهون بعض الانتقادات لنا، لكن الرئيس صدام، وبعد أن يستمع لكل ذلك، كان يسأل حكومته: ما الذي يطلبه الأردن منا؟ أعطوه ما يريد... ومشّوا كل ما يريد الأردن».

وفي حديثه عن مواقف صدام حسين «الإيجابية» تجاه الأردن، ينقل أبو الراغب عن الرئيس العراقي قوله عند لقائه به في زيارته لبغداد عام 2000: «قلتها للملك حسين الله يرحمه، وأقولها لك الآن: (لو) يرفعون الحصار عن العراق فوالله نفط الأردن سيكون مجاناً من العراق».

ويشير رئيس الوزراء الأردني السابق إلى أنه بحلول عام 2003 كانت الأمور قد انتهت، و«كان واضحاً بصورة جلية أن الحرب قادمة وصعبة. كانت الأوضاع داخل العراق، وفي جبهته الداخلية، صعبة بعد حصار 14 سنة، ولا يمكن مقارنة التفوق العسكري لأميركا مع العراق المنهك. كما كان الوضع دولياً وعربياً واضحاً في تلك المرحلة. كانت كل المؤشرات والرسائل الأميركية واضحة بالتوجه إلى الحرب. لم يستمع الأميركيون لنصائح الملك عبد الله الثاني والأردن من أن الحرب ستجر كوارث كبيرة على الشعب العراقي وعلى شعوب المنطقة، وأن الحرب والاحتلال سيفجران حرباً أهلية وعنفاً في العراق يصعب لجمه. كما أن الحرب ستقدم العراق على طبق من ذهب لإيران وتزيد نفوذها».

ويشدد أبو الراغب على أن «الإدارة الأميركية والمحافظين الجدد كانوا مصرين على الحرب والاحتلال... لم تكن لهم أجندة سوى ضرب العراق واحتلاله والاستيلاء على نفط المنطقة». لكنه يضيف: «لم نكن نستطيع هذه المرة السماح لعواطفنا بالتأثير علينا، وأن تحمّلنا موقفاً ندفع ثمنه كبيراً، كما في عام 1990. فقد كنا نأخذ مساعدات في عام 2003 من الولايات المتحدة ومن بعض الدول الشقيقة. وطبعاً كل ذلك يُضاف له أن الوضع الداخلي في العراق كان واضحاً أنه لن يصمد أمام القادم. كان واضحاً أنه ثمة تعنتاً سياسياً وعدم تقدير للمستقبل. وبالمناسبة، كنا نصارح العراقيين بأن القادم هذه المرة صعب، وأن نذر الحرب قادمة، وأنها ستختلف هذه المرة بتصعيدها أميركياً إلى احتلال العراق وإسقاط النظام».

يؤمن أبو الراغب بأن على المسؤول تحمل مسؤولياته، وعدم التهرب منها، و«الواقع يختلف أحياناً عن الرغبات والعواطف. وقد حصل ذلك معي أيضاً في موضوع تأجيل الانتخابات النيابية، فإنا مع الديمقراطية والحياة النيابية وتواصلها، ومع الانتخابات، ولكن عندما كان هناك ظرف يمنع إجراء الانتخابات لم أتهرب من مسؤولياتي وأجلتها».

وعن يوم 9 أبريل (نيسان) 2003، يوم سقوط بغداد، يقول أبو الراغب، النقابي وأحد عرّابي التجمع الديمقراطي الذي نشأ على أكتاف قوى قومية ويسارية في عام 1990، إنه «لم يفاجأ» بسيطرة القوات الأميركية على العاصمة العراقية. ويزيد: «إن المؤشرات والوقائع على الأرض كانت تشير إلى هذه النتيجة. كانت لحظة قاسية على الجميع، لكنها كانت متوقعة. لم نستغربها. لقد حاولنا الوقوف إلى جانب الشعب العراقي في معاناته، فنحن نعرف حجم الفقر والجوع الذي تسببت به سنوات الحصار، وبعدها الحرب، على العراقيين، لكن جميع مواقفنا ودعواتنا كانت تتكسر أمام مؤامرة إسقاط العراق في وحل الدمار. ولقد خفف من معاناتنا في تلك السنوات الصعبة من مطلع القرن العشرين، أن مواقف الدول الخليجية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية تفهمت مخاوفنا، ودعمت مواقفنا بعد أن سعينا جاهدين لبيان حجتنا وسلامة نوايانا، فعادت العلاقات متوازنةً، والتعاون فيما بيننا وثيقاً».