في قلب الصحراء الجزائرية وبين جبال الهقار والطاسيلي ولدت قصة موسيقية بطلتها آلة الإمزاد التي تصدر لحناً ضارباً في عمق التاريخ، في سهرات يفترش فيها الحاضرون الرمال ويستمتعون بشرب الشاي تحت ضوء النجوم والقمر.
الإمزاد آلة موسيقية تصدح منها أغاني البهجة والسعادة وتسمى موسيقى الفرح "إيسوهاغ نيمزاد وينترا"، ويطلق على أغاني الحزن "إيسيوهاغ نيمزاد وينتكا"، وهي آلة محرمة على الرجل في المجتمع التارقي، فهي لا تنصاع ولا تتجاوب مع أحد إلا لنساء الطوارق اللواتي يجدن العزف بها، وأصبحت ملاذهن للتعبير عما يجول في خواطرهن من مشاعر وأفكار.
محدبة في شكلها، ذات وتر واحد وقوس متفرد عن بني جنسها، مصنفة ضمن الموروث اللامادي، قالت عنها ملكة الطوارق تينهينان التي استقرت ذات يوم بمنطقة الهقار بولاية تمنراست جنوب الجزائر، إنها "معجزة الرجال ذوي النزاهة والفضيلة"، كما تشير المراجع التاريخية.
قصة الإمزاد
اختلفت الروايات والأساطير حول نشأة هذه الآلة، إذ ربطتها مراجع تاريخية بملكة الطوارق تينهينان التي حكمت في القرن الخامس للميلاد، ورجحت مصادر أنها أول من اخترع هذه الآلة، في حين تقول رواية أخرى وهي الأكثر تداولاً إن امرأة من نساء الطوارق كانت سبباً في اكتشاف هذه الآلة التي كانت وسيلة لنشر السلام في المنطقة التي تعيش فيها.
وعمدت إلى ابتكار الإمزاد لوقف النزاع والصراع المستمر بين القبائل، فخرجت هائمة وجمعت عيداناً وبعض شعر الخيل وعادت لتصنع آلتها مما وجدته حولها، وجلست تعزف أولى موسيقاها التي ما إن سمعها الرجال حتى أغمدوا سيوفهم ليستمعوا إليها فحل السلام، وبهذا يقال إن من يستمع للإمزاد لا يقدم على أمر شنيع أو غير أخلاقي.
تثمين الموروث
قطعت آلة الإمزاد مساراً طويلاً في الحفاظ على ألحانها الفريدة، ومن خلالها تعرفت الأجيال على حياة الإنسان الأول وما كان يشعر به في حالاته الوجدانية العالية، وقد كانت هذه الآلة محرمة على الرجل، وإذا عزف بها فستحل عليه اللعنة وذلك في معتقد مجتمع الـ "إموهاغ"، فهي مصدر استلهام وقوة وثقافة الرجل ومصدر تماسك المجتمع كونها ترمز إلى السيادة وتجسيد الجاه والشرف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غابت هذه الآلة خلال فترة من الفترات عن الساحة الثقافية في الجزائر بسبب التهميش الذي طال موروثات ثقافية كثيرة، لكن تأسيس جمعية "أنقذوا الإمزاد" عام 2003 أعاد الروح لهذه الآلة، إذ جعل الحكومة تصوب جهودها نحو تثمين هذا الموروث الذي يحاكي عبق التاريخ التارقي.
وأسست مدرسة تعنى بهذا الفن العريق على مستوى دار الإمزاد، كما خصص متحف خاص يعنى بالثقافة الصحراوية الخاصة بسكان الهقار تحديداً، وباتت الآلة حاضرة في المهرجانات التي تقام في الجنوب الجزائري.
كما استطاعت هذه الآلة الموسيقية أن تجذب السياح الأجانب الذين يعبرون عن إعجابهم بالألحان التي تطلقها، ويعود الفضل في هذا التصنيف العالمي للإمزاد للدور الكبير الذي قامت به المرأة في الأهقار، من خلال تمسكها بحماية التراث الغنائي التارقي الأصيل "إموهاغ".
مراحل الصناعة
تمر صناعة الإمزاد بخطوات، إذ تصنع الربابة من قشرة القرع أو ما نسميه القرع الأحمر الكبير، أو آنية خشبية نحتت من الخشب التي يكتسب صلابة مع مرور الوقت، ومن ثم يشد عليها نوع من الجلود ووتر واحد ويكون لها ثقبان أو أربعة ثقوب، كما يجب أن يكون الرقم زوجياً، والهدف من الثقوب هو نقل الصوت داخل الوعاء الخشبي، وبالتالي تعطيه نغمة معينة أو صوتاً يخرجه العازف في مستوى صوت لا يؤذي المستمع ويمس مشاعره.
وقد تستغرق صناعة آلة الإمزاد أسبوعاً، إذ يشد جلد غزال أو ماعز على نصف ثمرة القرع ويثقب على طرفيه، ومن ثم يزين الجلد برسوم مميزة وألوان طبيعية، ويصدر الوتر الوحيد الموجود في الآلة سبعة أصوات تمثل السلم الموسيقى كاملاً من خلال حركة يد العازف ومسكة الذراع وشكل القوس.