يرى رجل الإعلام والجامعي الجزائري الطاهر الأدغم في تعليق أدلى به إلى يورونيوز، أن "الجزائريين صبروا كثيرا على الهيمنة الثقافية الفرنسية منذ الاستقلال"، متحدثا عن "مرحلة تململ" إن لم تكن أزمة مكتومة" تمر بها العلاقات الجزائرية الفرنسية، لكن امتعاضا جزائريا من مراجعة اتفاقية 1968، قد يكون الأبرز.
بمقتضى مرسوم رئاسي نشر في الجريدة الرسمية الجزائرية، أعاد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قبل يومين اعتماد مقطع من النشيد الوطني، كان محذوفا من الكتب المدرسية منذ ألفين وسبعة لاعتبارات سياسية، إذ يعتبر فرنسيون أنه يحمل نبرة التهديد والعداء، وفيه إشارة إلى ثوّار الجزائر وهم يتوّعدون فرنسا التي كانت حينها تستعمر بلدهم "بيوم الحساب".
ونص المرسوم أن يتم أداء النشيد الوطني الجزائري المعروف باسم "قسمًا"، والمكوّن من خمسة مقاطع في صيغته الكاملة، في المناسبات الرسمية، بعد أن أُلغيَ منذ عام ألف وتسعمئة وستة وثمانين ، تجنبا للحرج السياسي بين البلدين.
ويقول مقطع النشيد: "يا فرنسا قد مضى وقت العتاب، وطويناه مثلما يُطوى الكتاب، يا فرنسا إن ذا يوم الحساب، فاستعدي وخذي منا الجواب، إن في ثورتنا فصل الخطاب، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر".
ويمثل هذا المقطع جزءا من الذاكرة الحية للشعب الجزائري الذي قاوم الاستعمار الفرنسي طيلة مائة واثنين وثلاثين عاما، حتى نال استقلاله سنة 1962، بعد تضحيات جسام، قدرت بأرواح مئات آلاف الشهداء.
والنشيد الوطني الجزائري كتبه الشاعر الجزائري مفدي زكريا بدمه على أحد جدران زنزانات سجن بربروس كي لا تضيع الكلمات، خلال فترة سجنه في خمسينات القرن الماضي، ولحّنه الموسيقار المصري محمد فوزي.
"امتعاض جزائري"
ترى الإعلامية (م.س.)المتابعة للشأن الجزائري والتي طلبت عدم الكشف عن اسمها، أن قرار الرئيس تبون هو تعبير عن "امتعاض جزائري"، بسببه قرر تأجيل زيارته إلى فرنسا، التي كانت مرتقبة هذا الشهر بعد أن كانت مبرمجة أصلا الشهر الماضي.
وهذا "الامتعاض" بحسب الإعلامية السالفة الذكر، هو على الأرجح، بسبب "تعالي أصوات فرنسية تريد مراجعة اتفاقية 1968 المبرمة بين باريس والجزائر"، والتي تيسر تنقل الجزائريين وعملهم وإقامتهم في فرنسا، حيث يحظوْن بمزايا دون غيرهم من المهاجرين أو الوافدين الأجانب، في وقت تتجه فيه باريس نحو تشديد قوانينها الخاصة بالوافدين من شمال إفريقيا.
ومعروف أن تلك الأصوات تأتي عادة من اليمين المتطرف الفرنسي من سياسيين، مثل إيريك زمور وآخرين مثل السفير الفرنسي السابق في الجزائر كسافييه درينكور، الذي ألف كتابا شجب فيه اتفاقية 1968، فيما اعتبر رئيس الحكومة السابق إدوار فيليب الاتفاقية قد تجاوزها الزمن.
ومن شأن هذه المواقف أن تزيد من توتر العلاقات بين البلدين، رغم التحسن المسجل في أعقاب زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الجزائر في أغسطس 2022، حينها قالت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيت بورن لموقع "كل شيء عن الجزائر" الإلكتروني: "لقد ولّى زمن سوء التفاهم" بين الجزائر وفرنسا.
ملف "الذاكرة" وهاجس "الوصاية"
القرار جاء أيضا فيما لا تزال مسألة الذاكرة التي توثّق للحقبة الاستعمارية جرحا نازفا، يثير الكثير من التشنجات بين ضفتيْ المتوسط، رغم قرار فرنسا إحداث لجنة مشتركة للعمل بخصوص هذا الموضوع، عقب تقرير للمؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا عنوانه: "مصالحة الذاكرة" وقد أعده بداية سنة 2021، يومها قال لصحيفة "لوكوتيديان دوران" الجزائرية الناطقة بالفرنسية: "ينبغي ألا تكون خطابات الاعتذار كلمات تُلفظ يومًا ما، كي نتخلص في اليوم التالي من مشكلة عميقة جدًا"، داعيا إلى أسلوب يفضل تعليم ومعرفة الآخر خلال فترة الاستعمار، والتي أقر وقتها بأنها لاتزال موضوعا ساخنا في الجزائر.
وفي جانب آخر، يسود اعتقاد لدى جزائريين بحسب مراقبين، أن إعادة المقطع هو استجابة لمطلب شعبي، أو هو إرضاء لتوجه داخلي، يرى أن باريس تعتبر الجزائر حديقتها الخلفية لمصالحها، ويطالبون برفع ما يعتبرونه وصاية فرنسية على بلدهم.
"هيمنة ثقافية"
ويرى رجل الإعلام والجامعي الجزائري الطاهر الأدغم في تعليق أدلى به إلى يورونيوز أن "الجزائريين صبروا كثيرا على الهيمنة الثقافية الفرنسية منذ الاستقلال"، متحدثا عن "مرحلة تململ" إن لم تكن أزمة مكتومة" تمر بها العلاقات الجزائرية الفرنسية.
وكان الرئيس تبون قد اعتبر في أغسطس من العام الماضي، أن إدخال اللغة الإنجليزية في المناهج التعليمية في بلاده يدفع بالجزائر نحو العالمية، قائلا: "اللغة الفرنسية مجرد غنيمة حرب، أما اللغة الدولية فهي الإنجليزية".
إلى روسيا قبل فرنسا
كانت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر قبل نحو سنة، وتحديدا في آب أغسطس الماضي، إشارة على تحسن العلاقات بين الجزائر وباريس باعتبارهما شريكين مهمين، ولكن قرار تأجيل الرئيس الجزائري زيارته إلى باريس هذا الشهر، يؤشر من جديد على وجود توترات تعكس خلافات عميقة، ولا يُعرف متى ستجد طريقها إلى الحل.
وبدلا من الاستعداد للتوجه إلى فرنسا هذا الشهر، شدّ الرئيس تبّون الرحال أمس الثلاثاء إلى روسيا، البلد الذي تربطه بالجزائر علاقات وطيدة، حيث يشارك في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي في سان بطرسبورغ، من 14 إلى 17 حزيران/يونيو الحالي، أما زيارته إلى فرنسا فلا يُعرف إلى متى ستؤجل، بل أنها قد لا تتم أبدا.