يا سلام!

منذ 1 يوم 29

يمكن للأمر أن يبدأ بمزحة وينتهي أزمة دولية. وقد كان للرئيس الفرنسي نصيب كبير من رسوم الكاريكاتير الساخرة حول لقاءاته مع الرئيسين الروسي ثم الأميركي. واللبيب قد يفهم من الإشارة أو لا يكون لبيباً. ونعرف كم يمكن للكاريكاتير أن يصيب في مقتل.

في الأربعاء الأول من كل شهر، يختفي صوت صفير البلبل وأسمع صافرات الإنذار تُقرع في الظهيرة. رنين نافذ يستمر دقيقة و41 ثانية لم أتعود عليه رغم أنني أقيم هنا منذ أربعة عقود. كنت أُفزع في البداية وأتذكّر تلك التي كانت تدوّي عندنا خلال حرب العراق وإيران. ثم فهمت أن الدفاع المدني الفرنسي يقوم بتجربة صفارات الإنذار للتأكد من صلاحيتها. 14 ألف صافرة في عموم البلد.

أغبط القوم على اهتمامهم بسلامة مواطنيهم. يعجبني التزامهم الحذر رغم أن آخر حرب هددت أراضيهم انتهت قبل 80 عاماً. أقول لنفسي إن صفارات الإنذار تحولت فولكلوراً وتقليداً تذكارياً، شيئاً أشبه بمزحة عابرة من أكاذيب الأول من أبريل (نيسان). لذلك هالني ما قرأت قبل يومين عن استعداد فرنسا لتوزيع كراسات على مواطنيها ترشدهم لضوابط التصرف في حال وقوع حرب.

لم تكن المتحدثة الحسناء باسم البيت الأبيض تمزح وهي تعيد تذكير الفرنسيين بأنهم لولا القوات الأميركية التي حررتهم من هتلر لكانوا اليوم يتحدثون الألمانية. هل يمكن، في كابوس ما، أن تتحدث أوروبا الغربية اللغة الروسية؟ قارة عجوز قاب قوسين من الحرب. شعوب طالما تباهت بعصور الأنوار والتحضر والقوانين والفنون والآداب. عقدت دولهم شراكة سياسية واقتصادية كانت مثار حسد أمم مشرذمة. كأنّ الأوروبيين استهدوا بقول شاعرنا النجفي محمد سعيد الحبوبي: «فلذيذ العيش أن نشتركا».

هل يتبدد لذيذ العيش؟ تدرس فرنسا إعادة الخدمة العسكرية، تلك التي فرضها قانون صدر عام 1798، ثم جاء الرئيس شيراك بعد أكثر من قرنين وقرر تعليقها وتحويلها إلى خدمة مدنية موجزة للأولاد والبنات. نزهة وطنية. ما أسرع ما يتقلب المناخ! لعلّ الرئيس ماكرون يقرأ قبل النوم تقارير عن النفير العام. إنه يبحث عن موارد لدعم ميزانية الدفاع البالغة 50 مليار يورو. المستشارون قلقون من تعقّد الأمور في أوكرانيا والدخول في مواجهة مع بوتين. والأدهى أن الإدارة الأميركية تنوي سحب يدها من حلف الأطلسي. وهناك الأمم المتحدة تتفرج وتتثاءب. ما أثقل دمي حين أكتب في السياسة! سيقول ترمب لماكرون ما قاله بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتلا...

ليس في طاقة أي زعيم أوروبي الذهاب أبعد من باب بيته. لكن الخوف قائم. ما عاد الفرنسيون يسمعون صفارات الإنذار في الأربعاء الأول من كل شهر فيبتسمون ولا يعيرونها التفاتاً. إن أفلام الحرب ما زالت على الشاشات. والجيل الذي دفع بملايين الأرواح دفاعاً عن الوطن لا يريد أن يضحي بأحفاده. مع هذا تبقى كل الاحتمالات ممكنة في زمن النزق السياسي والرؤساء الهواة.