مقال الأسبوع الماضي أثار الكثير من الجدل، الذي جاء معظمه في صيغة «الرد» على الكاتب أو المقال، وليس مناقشة الفكرة التي يطرحهــــــــــا. وقــــــــد أكدت لي هذه الردود ملاحظة ذكرتها في كتابات سابقة، فحواها أن غالبية من يجادلون الكتابات المتعلقة بمسألة دينية أو التي لها ظلال دينية، ينطلقون من خوف على الدين، خوف من أن أي فكــــــــــرة جديدة أو نقد للممارسات الرائجة، ربما يؤدي إلى هدم الدين، حتى لو كان غير مقصود في الأصل. والحق، أن معظم هذه الكتابات ينشرها أشخاص حرصاء، وبعضهم متخصص في مجاله. لكن أياً كان الأمر فإننا في حاجة إلى فهم دواعي الخوف المذكور، سواء قبلناه أو أنكرناه.
علاقة المسلمين بالأمم الأخرى، واحدة من أبرز انشغالات العقل المسلم في عصرنا الحاضر. وهو انشغال يشترك فيه عامة المسلمين ونخبتهم. من هنا بات موضوعاً أثيراً للكلام الشــــــــعبي والخطابة، فضلاً عن البحث العلمي. وفي حالة كهذه، فالمتوقع أن يكون للكتابات الخفيفة ومـــــــــــا يجاريها من خطب منبريـــــــــة، دور أكبر في تكوين الرأي العام المتعلق بالمسألة.
تدور الأبحاث العلمية المتعلقة بالموضوع حول أسئلة من قبيل: ما الذي نستفيد من علاقتنا بالغرب، وكيف نعظم الفوائد، تأثير هذه العلاقة على الاستقلال الوطني، التأثيرات المتبادلة بين المسارات المتعددة للعلاقة، أي تأثير العلاقة الاقتصاديـــــة على الوضع السياسي والثقافي، وتأثير هذه على تلك، إلخ. وأريد لهذه المناسبة استذكار الجهد الباهر للمرحوم الدكتور خير الدين حسيـــــــب، مؤسس مركز دراسات الوحدة العربية، الذي أشرف على عدد كبير من الأبحاث المتعلقة بالموضـــــــــوع، وأذكر خصوصاً الدراسات الخاصة بالانكشاف الاقتصادي والأمني، وسبـــــل التعامل معه على مســــــــتوى الوطن العربي. أود الإشارة أيضاً إلى أعمال المرحوم مالك بن نبي، المفكر الجزائري المعروف، الذي حاول الإجابة عن سؤال: كيف نجسر الفجوة التقنية/العلمية مع الغرب، من دون أن نضحي باستقلالنا السياسي وخصائصنا الثقافية؟. هناك أيضاً باحثون كثيرون عرب وأوروبيون، ونظراء لهم من آسيا وأميركا اللاتينية، قدموا أعمالاً في غاية الأهمية، عالجت زوايا مختلفة للموضوع. وهي تشكل – في مجموعها – مصدراً لا غنى عنه، إن أردنا التوصل لفهم موضوعي، أو وضع خطة علمية لعلاقة مثمـــــــرة بين العـــــــالم العربي/الإسلامي والغرب.
أما الخُطب المنبرية وما يجاريها من كتابات خفيفة، فقد وقع معظمها في فخ الخلط بين التوجيه التعبوي المناسب لمراحل الصراع، والتحذير مما يزعم أنه مؤامرة غربية، وبين أحكام مبنية على الخوف أو التخويف من الاختلاط بالمخالف.
وردت أبرز التنظيرات لفكرة «استعلاء الإيمان» و«استعلاء المؤمن» في كتابي «معالم في الطريق» و«في ظلال القرآن» لسيد قطب، وتناولها فيما بعد الخطباء والكتاب المتأثرون بفكره. لا بد من القول إن تعبير «استعلاء» لم يرد في القرآن ولا التراث الإسلامي القديم كسمة لأهل الإيمان، بل أورد القرآن الكريم لفظ «استعلى» على لسان فرعون.
التوجيه القرآني يؤكد أن الله رفع عباده بعملهم، لا بمجرد انتمائهم. لكن نفوذ فكرة الاستعلاء في التثقيف الديني العام، ولا سيما على ألسنة خطباء ودعاة، أسس لحالة نفسية محورها الترفع/الكبرياء الشخصي، يمارسه الشخص المتدين حين يقارن نفسه بالآخرين. وقد اتخذ في بعض الأحيان مدخلاً لنفي الحاجة إلى العلم أو بقية القوى المادية، في المقارنة مع من يملكها. فكأن المؤمن يقول لنفسه: أنا متدين ولا أملك شيئاً مادياً، غيري يملك كل شيء، لكنه غير متدين، إذن أنا أرفع منه.
بطبيعة الحـــــــــــــــال، لا أحد يقول هذا صراحة. لكنه يجري في داخل النفس على شكل تعويض تخيلي عن بعض الإخفاقـــــــــات. ولهذا حديث آخر نعود إليـــــــــه في قـــــــــــــادم الأيــــــــــام إن شاء الله.