وما أدراك ما «طالبان»!

منذ 1 سنة 277

قبل عامٍ ونيفٍ، وقبل الانسحاب الأميركي المستعجل وغير المنظم، وبعد المفاوضات بين أميركا وحركة «طالبان» في الدوحة، كان واضحاً وجلياً أن الحركة لم تتغير، ولكن أميركا تريد الانسحاب بما يشبه الهروب، وقد حصل.
كان التسويق الإعلامي واسعاً وكبيراً غربياً، والغريب عربياً أن «طالبان» تغيرت وتطورت، وكان واضحاً للمراقب والمحلل أن هذا حديث جاهل لا يسنده علمٌ ولا تعضده تجربة ولا يؤيده واقعٌ، وخلال عامٍ ونيفٍ بدأت الصورة ترجع كما كانت من قبل.
من الجيد التذكير في حدث يغلي كما يجري الآن في أفغانستان ببعض ما قيل سابقاً، لأنه مفيدٌ لقراءة التجربة وتعزيز الخبرة وتراكم الوعي، فقبل عقدٍ من الزمان كتب كاتب هذه السطور في 2013 تقديماً لكتاب الأستاذ محمد الهادي الحناشي «العاصفة والعمامة» عن أفغانستان و«طالبان» جاء فيه: «إن الكتاب يفتح كثيراً من الأسئلة حول مستقبل حركة (طالبان) السياسي، كما الآيديولوجي، وهل هي قادرة على تطوير نفسها للتعايش مع منطق التاريخ وموازنات القوى في العالم، أم أن فشلها القديم لن يلبث أن يعاودها بعد كل ما مرت به؟ ثم في حال عودتها للسلطة هل تستطيع أن تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء؟ وهل بإمكانها إغفال التغييرات الكبرى التي جرت في البشر كما في التنمية؟»، وهي أسئلة بدأت خلال عامٍ ونيفٍ تلتقي بإجاباتها.
وقبل عامٍ ونيفٍ تم نشر هذا المقال والتأكيد فيه على أنه «ما عدا بعض التصريحات التي يتم تلطيفها لتناسب الظهور في الإعلام في هذه المرحلة الانتقالية للسلطة في أفغانستان، فإن كل شيء تقريباً يشير إلى عودة (طالبان) للخطاب القديم نفسه والتوحش الماضي ذاته، ولا شيء يلوح في الأفق ليبشر بأي تغييرات جذرية على مستوى الآيديولوجيا أو السياسة المتوحشة»، وفي مقال آخر تم التأكيد على أن «قوة الآيديولوجيا وطبيعة التنظيمات وأساليب العمل لا تتغير بين عشية وضحاها، ولا تتبدل بلا سبب مقنعٍ ولا خطابٍ جديدٍ وإلا لأمكن تصور أن تتحول الأشياء من النقيض إلى النقيض لمجرد رغبة سياسية أو إعلامية لا يسندها منطقٌ ولا يدعمها واقعٌ، وحراك التاريخ أخطر من أن يتم تناوله بهذه البساطة المخلة والسطحية الساذجة».
وفي مقالٍ ثالثٍ حول حركة «طالبان» وسيناريوهات المستقبل، تم مناقشة فكرة «أن تتحول (طالبان) لحركة تسامحٍ وتعايشٍ ومحبة وسلامٍ، وهو ما لا يبدو مقنعاً لأحد حتى لمروجيه، لأن التاريخ والجغرافيا، والهويات القديمة من عرقٍ ودينٍ وطائفة، والثقافة والسياسة، كل هذه مجتمعة لا تساند هذا السيناريو وتنفي واقعيته، وبالتالي تلغي جدوى طرحه بشكل علمي جادٍ».
تاريخياً، بدأت حركة «طالبان» في التشكل بعد انسحاب الجيش السوفياتي من أفغانستان نهاية الثمانينات وبداية التسعينات وقيام الحرب الأهلية بين رفقاء السلاح، وتحول «أمراء الجهاد» إلى «أمراء الحرب»، وبدأت أسماء مثل «سياف» و«حكمتيار» و«رباني» و«أحمد شاه مسعود» تتلوث بدماء الشعب الأفغاني، وصار الجميع يفتشون عن حلٍ ينهي هذا الانقسام وهذه الحرب، فخرجت حركة «طالبان».
في النصف الأول من عقد التسعينات كان يتم تسويق الحركة لدى تيارات «الصحوة الإسلامية» لإقناعهم بالتخلي عن «أمراء الحرب» ودعم «طالبان»، وكان بعض المقربين من أسامة بن لادن يجتمعون بشباب الصحوة في الحرم المكي في شهر رمضان لشرح أهداف الحركة والثناء عليها في مقابل نقدٍ مقذعٍ لأمراء الجهاد السابقين ضمن تحرك واسع النطاق حينها حتى تمكنت الحركة من السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد.
حركة «طالبان» حركة سنية تنتمي لـ«الديوبندية» عقيدة وفقهاً، وهي حركة متطرفة دينياً وتنتمي عرقياً لقبيلة «البشتون» الكبيرة، ولكن قيمتها وخطورتها لا تأتيان من انتمائها العرقي بل من آيديولوجيتها المتطرفة، ومن علاقاتها الوثيقة مع «الحركات الأصولية» و«تنظيمات الإسلام السياسي» مثل جماعة «الإخوان» و«السرورية» و«تنظيم القاعدة»، فأي تعمية على هذه الحقيقة، ولأي سبب كان، مساهمة في تأجيل البحث عن أفضل الطرق لمواجهتها.
لم تعترف بحكومة «طالبان» آنذاك سوى ثلاث دولٍ في العالم، باكستان والسعودية والإمارات، ولم تلبث الحركة أن عادت هذه الدول الثلاث وانحازت للإرهاب والإرهابيين، وهي ما زالت أمينة على إرثها المتطرف وخطابها المتشدد، والعبث الأميركي في غزو أفغانستان 2001 لا يشبهه إلا العبث الأميركي في الانسحاب المستعجل 2021.
عقدان من الزمان أو عشرون عاماً كانت أولويات أميركا فيها شعاراتية فقط بلا عملٍ حقيقي مثمرٍ، وهي شعاراتٌ مفيدة لإقناع الناخب الأميركي مثل «الديمقراطية» و«الانتخابات» على ظهور البغال، ولكنها لم تصنع شيئاً لدعم خطاب ديني جديد أو خطاب مدني مؤثر داخل أفغانستان.
لا أحد يجادل في أن من حق أميركا أن ترعى مصالحها وتدافع عن أمنها، فهي دولة بحجم إمبراطورية وليست جمعية خيرية، ولكنها انحازت للشعارات الجوفاء غير المفيدة مطلقاً للشعب الأفغاني ولم تستعن بالدول العربية والإسلامية لخلق مستقبل جديد، وهو ما كانت تحاول أن تصنعه السعودية والإمارات بشكل يتناسب مع دورهما هناك.
الانسحاب من أفغانستان وتسليمها لحركة «طالبان» أميركياً ليس قراراً شاذاً، بل هو يأتي في سياق سياسة أميركية طبعت العقد الأخير بطابعها، فدعم «الحركات الأصولية» للاستيلاء على الحكم في عدد من الدول العربية إبان ما كان يعرف بـ«الربيع العربي» كان قراراً واضحاً بدعم «الأصولية السنية»، وتوقيع «الاتفاق النووي» مع النظام الإيراني بكل تبعاته المالية والاقتصادية والسياسية كان قراراً واضحاً بدعم «الأصولية الشيعية»، والاتفاق مع «طالبان» وتسليمها أفغانستان قبل عامٍ ونيفٍ كان قراراً واضحاً في هذا السياق.
التحالف «اليساري الليبرالي» الغربي مع «الحركات الأصولية» عاملٌ مهمٌ في التأثير على المنطقة في العقد الأخير، يضاف إليه الموقف السياسي الغريب ضد نماذج التنمية والتقدم والرقي التي تتبناها الدول العربية الرائدة السعودية والإمارات ومصر وغيرها، فبدلاً من الترحيب بهذه النماذج الخلاقة التي توجد حلولاً سياسية ودينية وثقافية واجتماعية عميقة في المنطقتين العربية والإسلامية حدث العكس تماماً من قبل صانع القرار الأميركي.
أخيراً، فضمن هذا السياق، يمكن قراءة التغييرات الكبرى التي تجري اليوم في المنطقة والعالم، وقراءة إعادة ترتيب موازين القوى إقليمياً ودولياً، وما حركة «طالبان» بكل تطرفها والبشاعات التي تتبناها إلا حلقة في سلسلة من التوجهات السياسية التي تحتاج لقراءة وتحليل عميقين.