هل كان من محض المصادفة أن يتزامن حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، المفعمين بالاحترام للمملكة العربية السعودية، والتقدير لقيادتها ودورها الرائد على الساحة الدولية، في الوقت الذي يصارع العالم فيه أمواج النزاعات المسلحة والفكرية في الشرق والغرب؟
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها قادة العالم بهذا التقدير والاحترام عن المملكة ومليكها وولي عهده، لكنَّ الحديث الآن جاء في ظل عالم تتفاعل فيه أقطاب متعددة بحدةٍ بالغة -حدَّة المصالح وحدها- وتواجه فيه الشعوب تحديات في وعيها بذاتها وقيمها، وفي تقييمها ونظرتها إلى الآخر؛ وتَلوح في الآفاق أخطار بتوسع دائرة الحروب القائمة واندلاع صراعات جديدة.
الرئيس بوتين قال في لقاء إعلامي على هامش قمة «بريكس»، وفي معرض إجابته عن سؤال لرئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز» فيصل عباس، عن مشاركة روسيا في مؤتمر سلام حول القضية الأوكرانية في المملكة العربية السعودية: «نحن نعدّ السعودية بلداً صديقاً، ولديَّ علاقة طيبة مع الملك سلمان، وتربطني علاقة شخصية قوية مع ولي العهد، أنا واثق بالسعودية، وإذا عُقد مؤتمر فيها، فالمكان في حد ذاته مريح بالنسبة لنا».
أما الرئيس دونالد ترمب، الذي ينافس اليوم على العودة إلى البيت الأبيض رئيساً، فقال في مقابلة خاصة أجرتها مديرة مكتب قناة «العربية» في واشنطن، نادية البلبيسي، إنه سيعمل «مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، من أجل إعادة السلام إلى المنطقة».
وأضاف أنه «يحترم كثيراً الملك سلمان، كما في الوقت نفسه يحترم كثيراً ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان»، مؤكدًا أن «ولي العهد يحظى بكثير من الاحترام في دول العالم، كما أنه يُبلي بلاءً حسناً... وأنه حقاً صاحب رؤية، إذ استطاع تنفيذ كثير من الأمور التي لم يكن ليفكر بها أحد غيره، إنه يفعل شيئاً عظيماً، وهو رجل رائع».
هذه التصريحات لم تأتِ من فراغ، ولتزامنها مدلولات جديرة بالتأمل؛ فالمملكة العربية السعودية تمكنت خلال السنوات الماضية من تعزيز علاقاتها مع مختلف القوى العالمية بشكل مشهود، نتيجةً لجهود قيادة رسمت ونفَّذت مساراً لشراكات استراتيجية للقرن الحادي والعشرين ترتكز على تعزيز المكتسبات المشتركة مع الدول المؤثرة بوعي متجدد باحتياجات عالم اليوم، وتحقيق توازن في ذلك يخدم المصلحة المشتركة للجميع؛ فليس من السهل أن تتمتع أي دولة اليوم بعلاقات استراتيجية مؤثرة مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وتبقى في الوقت نفسه على ثبات في المبدأ والمسار وتحظى جهودُها بمثل هذا الإطراء والتقدير من زعماء العالم.
لم تكن الرحلة سهلة بكل تأكيد، فقد واجهت المملكة خلال السنوات العشر الماضية تحديات متعددة، فلو رجعنا إلى عام 2015 لرأينا انخفاض أسعار النفط بنحو 70 في المائة، وتأثيره المباشر على الميزانية العامة للدولة، وكانت الهجمات الإرهابية مستمرة تستهدف أمن البلاد واستقرارها، وجاءت كورونا امتحاناً مفاجئاً للدول وقدراتها وإمكاناتها، ناهيك بأزمات المنطقة المستمرة النزف؛ من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا، وما تواجهه الدول العربية الأخرى من تحديات اقتصادية وخلافات بينية، وغير ذلك كثير من الملفات والقضايا التي تدار في دهاليز السياسة والقنوات الدبلوماسية ولا يُعلم عنها!
كان التعامل مع كل أزمة ببرنامج واضح المبدأ، محكَم الإجراءات؛ ففي الجانب الاقتصادي كانت «رؤية المملكة 2030» هي الجواب الشافي. وبينما تتصارع الدول اليوم بين أتون النزاعات المسلحة والضغوط الاقتصادية، تتوالى بشائر اكتمال مشاريع الرؤية الطموحة قبل موعدها، وفوز الرياض باستضافة تظاهرات دولية مثل «إكسبو» و«كأس العالم لكرة القدم»، ويعيش المجتمع السعودي نهضة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة على مختلف الصعد. وفي جانب الأمن الفكري، كان القول الموجز لولي العهد: «لن نُضيع 30 سنة أخرى من حياتنا في التعامل مع أفكار متطرفة، سوف ندمرهم اليوم وفوراً». أما الأمن الإقليمي والدولي، فجاءت «عاصفة الحزم» لإفشال مشروع ابتلاع اليمن، وبعثت جهود الوساطة بين أوكرانيا وروسيا بصيصَ أملٍ في حرب مستعرة. وبالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، كان اتفاق «أوبك بلس» شاهداً آخَر على البراعة السعودية التي جنبت اقتصاد العالم منزلقاً خطيراً قد تستمر آثاره السلبية لأجيال. وفي جائحة كورونا، كانت قيادة المملكة حاضرة برئاسة الملك سلمان لقمة العشرين، وقدمت للعالم نموذجاً مرجعياً في تنسيق الجهود الدولية، وسرعة الاستجابة ونجاعة الإجراءات التي صانت المجتمع وديمومة المنشآت التجارية والاقتصادية. وفي مجال الاستثمار، يواصل صندوق الاستثمارات العامة ومؤسسات الدولة الأخرى بناء جسور اقتصادية متينة مع الشرق والغرب، وتعظيم موقع المملكة بوصفها مركز ثقل اقتصادي واستثماري خارج الإطار التقليدي للنفط.
وفي الوقت الذي تستمر فيه معاناة الشعب الفلسطيني الذي أعطته المملكة منذ بداية نكبته حتى اليوم واجب الدم والعرق قبل الدعم المالي السخي، تقف قيادة المملكة ثابتة على مبدئها بأنْ لا سلام من دون دولة فلسطينية، وتعود العلاقات مع الجارة إيران بعد كل فصول الماضي، ويقف رئيس الوزراء الإسرائيلي مخاطباً الأمم المتحدة آملاً في علاقة مع الدولة الأهم في المنطقة!
وفي صراعات المنطقة الأخرى، قديمها وجديدها، كانت قيادة المملكة واضحة في التشخيص وفي عرض الحل، فلم يعد هناك متسع لمعادلات لا تؤدي إلى نتائج منطقية.
هل كان يتصوَّر أحد قبل بضع سنوات أن تبذل المملكة جهوداً لمعالجة التحديات الإقليمية والدولية الراهنة مع أمريكا والصين، والدول الأوروبية، وروسيا وأوكرانيا، وإيران، والهند وباكستان، وأن يقود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، هذه الجهود في كل اتجاه، وأن يخاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي العالم آملاً في علاقة معها؟!
الجواب بالنسبة إلى السعوديين هو: نعم بكل تأكيد، فقد شهدوا من ثمار الرؤية المباركة، ومن حرص قائدهم وملكهم، ومن جهد ولي عهده، ما يجعلهم يواصلون الليل والنهار لنيل شرف خدمة قيادتهم وبلدهم واللحاق بهذا الطموح الوثاب. وبالنسبة إلى بوتين وترمب، نعم أيضاً؛ كيف لا وهما أول رئيسين لروسيا وأمريكا يعملان مع الأمير محمد بن سلمان بعد أن تسنَّم مهام المسؤولية ووجدا فيه الشريك المسؤول والموثوق.
إن هذا الثناء والتقدير والاحترام ليس من قبيل المجاملة الدبلوماسية بين قيادات الدول، وإنما ينطلق حتماً من المنجزات والمكاسب الاستثنائية التي حققها سموه مع هذين القائدين سواء من خلال اتفاق «أوبك بلس»، أو الوساطة مع أوكرانيا في جانب بوتين، أو تجديد الشراكة الاستراتيجية ومواجهة التهديدات الإقليمية مع واشنطن في عهد ترمب، والتي جاءت بالتزامن مع تأسيس «شراكة استراتيجية شاملة» مع الصين.
والسعودية اليوم، بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، لديها علاقات احترام وود مع أمريكا وروسيا والصين والهند وباكستان وإيران وتركيا واليونان والدول الأوروبية -والقدرة على جمع كل هؤلاء الأضداد براعة سياسية سعودية فريدة! وبقدر ما يحتاج العالم اليوم إلى قيادة كالقيادة السعودية، يحتاج بالقدر ذاته إلى الاستفادة من ثمار رؤيتها وتفاعلها الإقليمي والدولي، فالقرن الحادي والعشرين تريده قيادة المملكة أن يكون قرناً للإنجاز السعودي، وتستحق الشعوب الأخرى أن تعيش خلاله الطموح في الحاضر والغد وحلاوة الإنجاز الذي يعيشه السعوديون كل يوم.