ولادة سورية متأخرة!

منذ 1 سنة 183

وسط حمى الاجتماعات السورية الجارية هذا الصيف، جاء اجتماع باريس الذي عقده مؤخراً في باريس فاعلون سوريون في المجتمع المدني، يمثلون نحو مائة وخمسين من منظمات مدنية سورية، تنشط في الداخل وفي بلدان الانتشار السوري، والهدف الرئيسي للاجتماع إطلاق حاضنة للعمل المدني في سوريا، وتم اختيار اسم «مدنية» لها تعبيراً عن اهتمامها الأساسي وهدفها، وطبقاً لما هو معلن، فإن سوريين وسوريات، اشتغلوا في عام مضى لإنجاح المبادرة، ووفروا سبل إنجاحها، وتمويلها من قدراتهم الذاتية.

وحسب تأكيدات وردت في أوراق «مدنية» وفي تصريحات لمشاركين فيها، فإن «مدنية» ليست جسماً سياسياً جديداً أو منافساً لما هو قائم في الفضاء السوري. إنما تتبنى مقاربة سياسية، تدعم من خلالها «المبادئ التي تجمع الطيف الأوسع من السوريين، متمثلة بوحدة سوريا واستقلالها وسلامتها الإقليمية على أساس المواطنة المتساوية»، وتلتزم «الحل السياسي وفق القرارات الدولية»، و«إطلاق سراح المعتقلين والمختفين قسرياً عند النظام وباقي أطراف الصراع»، و«وصول المساعدات إلى جميع السوريين من دون تمييز أو عوائق، أو قيود، وحماية اللاجئين من التمييز والترحيل القسري حتى تحقيق حل سياسي يوفر الظروف المناسبة لعودة طوعية آمنة وكريمة».

وتؤكد «مدنية» من الجهة الأخرى، أنها ليست قيادة للعمل المدني، إنما هي قوة مساندة ودعم له عبر مساعدة منظماته، وتوفير سبل نجاحها في أداء مهماتها، وتحقيق أهدافها المعلنة في خدمة السوريين؛ ما يجعل إدارتها مكونة من ممثلي وقادة المنظمات المدنية المتشاركة فيها، والتي سينضم إليهم لاحقاً منظمات وأشخاص من الفاعلين المدنيين، وسوف يتشارك الجميع في اختيار هيئات «مدنية» وأجهزتها التنفيذية وفق معايير عالية من الشفافية. ومن شأن تحقيق ذلك، أن يجعل من «مدنية» مثالاً وقوة تأثير في مستقبل سوريا، «تعمل من أجل دولة تدعم حقوق الإنسان والحريات وسيادة القانون».

ولا يحتاج إلى تأكيد، أن الوصول إلى تحديد موقع «مدنية» في المجالين السياسي والمدني، متصل بالواقع السياسي والاجتماعي للتجربة السورية في سنوات العقد الماضي، وما تمخض عنه من مشكلات وإشكالات، وصل بعضها إلى الكارثة، ومنها فشل أغلب الجهود والمبادرات في الوصول إلى إنتاج تجارب مشتركة وبخاصة في المجال السياسي، وهذا بين أسباب دفعت العمل المدني باتجاه توليد التجربة الجديدة، علّها تكسر حدة الفشل في المجالات الأخرى، بخاصة أن ثمة ضرورات سورية وخارجية أخرى تدفع بهذا الاتجاه.

أولى الضرورات في المستوى السوري، تكمن في الحاجة إلى تنشيط المجتمع بعد كل ما أصابه من رضوض وتكسير، ودفع قواه المنظمة نحو تلبية الاحتياجات السورية، لا سيما في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأبرز أولوياتها، تبني مسار الحل السياسي والعمل عليه في ظل التراخي الدولي والإقليمي، ووسط إصرار سلطات الأمر الواقع على تواصل الحل العسكري علناً، وضمناً على نحو ما يظهر موقف جناحي الشمال السوري في السعي إلى تثبيت حضورهما بالقوة، وتصعيد العداء في ما بينهما.

وثانية الضرورات، تحرك المجتمع المدني عبر منظماته والناشطين فيه بصورة فاعلة من أجل تبريد ما تصاعد من صراعات وخلافات متعددة ومتداخلة، تهدد النسيج الوطني الواحد ووحدة الكيان السوري، والعمل على لمّ شمل السوريين في بُعدَيه الاجتماعي والثقافي بعيداً عن المواجهات السياسية والعسكرية.

وثالثة الأولويات وأكثرها أهمية، قيام المجتمع المدني عبر منظماته وجماعاته بالتعاون مع المجتمع الأهلي في الداخل ومع المجتمع الدولي بدوله ومنظماته في الخارج للمساعدة في مواجهة ما خلّفته سنوات الصراع والدمار من فقر وعوز ومشاكل عميقة، وقلة في تلبية الاحتياجات الضرورية للحياة، وتوفير سبل أفضل لحياة السوريين الذين يعانون حتى في أغلب أماكن انتشارهم.

أما في المستوى الخارجي، فهناك ضرورات أخرى، أهمها ضرورة إطلاق طرف سوري فاعل ومنظم، ينتظره دور معروف ومعلن في مساعدة السوريين على الخروج من انسدادات الوضع القائم، والدفع نحو حل سياسي، وتلبية احتياجات السوريين، وهذا ما يحوز اهتمام الرأي العام العالمي، دولاً وهيئات ومنظمات، وتتجسد أبرز تعبيراته في أمرين، أولها دعم متعدد الأوجه لأنشطة منظمات المجتمع المدني المستمر منذ سنوات، والثاني سعي الأمم المتحدة لتمثيل المجتمع المدني في النشاطات المتعلقة بالوضع السوري ومنها مفاوضات الحل السياسي.

خلاصة الأمر في ما أحاط بإطلاق «مدنية»، وما رشح عنها، أنها محاولة للخروج من نفق التهميش السوري، والدفع بتعبيرات المجتمع المدني لإنشاء حاضنة تفاعل في ثلاثة حدود، أولها داخلي يشمل العلاقات البينية بين المنظمات وفي إطار «مدنية»، والثاني علاقات في المستوى السوري وفعالياته المختلفة، والثالث علاقات مع المحيط الخارجي من دول ومؤسسات، ما يترك تأثيرات في الواقع وفي مسار القضية السورية.

المهم في المبادرة، أنها جاءت مبادرة سورية مستقلة بعد دراسة وتدقيق، وأنها تمت في ظل أمرين، أولهما تهافت سلطات الأمر الواقع والتمثيلات السياسية والعسكرية السورية، وتبعية أغلبها لقوى خارجية، والآخر حصول تطورات إقليمية ودولية، أعادت وضع الملف السوري على طاولة البحث والتدقيق.

وإذا كان من الصحيح، أن المبادرة تأخرت كثيراً، فإن المهم أنها حصلت، ومهم أن تنجح، والأهم مما سبق، أن تكون درساً للمعارضة في المسار ذاته وصولاً إلى شكل من العمل المشترك مع الأطراف الأخرى، يؤدي إلى معالجة شاملة للقضية السورية عبر مسار الحل السياسي وفق القرارات الدولية.