ملخص
لا تنحصر تلك الظاهرة في بلد أو شركة طيران أو حتى جنسية ركاب محددة، بل تتعدى كل ذلك لتصبح أقرب إلى صخب وقوف جماعي وآني في لحظة واحدة، على رغم أن إنذار وضع حزام الأمان يكون لا يزال فعالاً في أحيانٍ كثيرة، فهبوط الطائرة لا يعني الإذن النهائي لركابها بمغادرتها من دون تنظيم.
ما إن تهبط طائرة نقل الركاب على المدرج حتى يسارع راكبوها إلى التزاحم والتدافع بغية النزول منها بأسرع وقت ممكن، محدثين إرباكاً تعجز مضيفات الطيران عن التعامل معه وتفسيره، مما لا يؤدي برمته إلا إلى تأخير فعلي في زمن تجاوز البوابة نحو أرض المطار لا العكس.
ولا تنحصر تلك الظاهرة ببلد أو شركة طيران أو حتى جنسية ركاب محددة، بل تتعدى كل ذلك مجتمعاً لتصبح أقرب لصخب وقوف جماعي وآني في لحظة واحدة، على رغم أن إنذار وضع حزام الأمان يكون لا يزال فعالاً في أحيان كثيرة، فهبوط الطائرة لا يعني الإذن النهائي لركابها بمغادرتها من دون تنظيم دربت عليه فرق أمان وخدمة الطائرة في الجو أو على الأرض.
علم النفس
وللبحث في ذلك السلوك ومعرفة دوافعه يجب أولاً قراءته وفق علم النفس السلوكي للأفراد وما أنتجه من نظريات متعلقة بالحال الذهنية لراكب الطائرة، إذ خلص علم النفس إلى نظرية اسمها "النزقان الجوي"، وتتحدث حول سلوك عدواني مفترض من قبل الراكب "المتوتر" حيال طاقم الطائرة وزملائه الركاب حتى.
النظرية تمهد لنفسها بأن ذلك التوتر ينجم عن الخوف من الطيران أساساً فينعكس أساليباً متبدلة في التعامل مع لحظات الوجود في الجو، ويتجسد متبلوراً بصورته الأكثر عمومية في لحظة ملامسة عجلات الطائرة أرض المهبط، فلا يصدق الراكب المتوتر أنه على بعد لحظات من الأرض، وهنا يصبح سلوكه أكثر عشوائية ويتجاوز المقاعد ويرتطم بالركاب ويتجاهل التعليمات ويجري بأي طريقة ليكون أول الخارجين.
ويختلف أثر الضغط الجوي بين راكب وآخر، لكنه لا شك ينجح حين إسقاطه على معظم الركاب باعتماد علم النفس كمحرك أساس للغريزة التي تتصرف من دون تفكير، فيبرر ذلك التدافع غير المنطقي لأناس متبايني الثقافة والتفكير والطبقة الاجتماعية، إذ يتشارك في ذلك الازدحام الركاب من الدرجة الممتازة حتى الأعمال وصولاً للاقتصادية.
أسباب أخرى
ويمكن إضافة أسباب موضعية أخرى تبرر لهؤلاء الركاب تصرفاتهم في حال اندفاعهم لا في صوابها، وعلى رأسها الشعور الجماعي بالرغبة الفورية في مغادرة الطائرة، ذلك الكيان الأبيض الكبير الذي طار بهم لساعات فوق دول وبحور وجبال.
وخشية بعضهم أساساً من الأماكن المغلقة وحاجة آخرين إلى استخدام الحمام بشكل أكثر ارتياحاً مما هو عليه في الطائرة، وكذلك عوامل عاطفية منها ما هو مرتبط بالاشتياق لموطن الزيارة أو للأشخاص منتظري الراكب خارج الطائرة من أهل وأحباء، ولربما بقصد اللحاق برحلة أخرى موعدها يلامس موعد وصول الرحلة الأولى.
الفطرة البشرية
التاجر السوري موفق موصللي اعتاد السفر المتواصل بين دمشق وبكين لأغراض تجارية، تحدث لـ "اندبندنت عربية" حول القيام الجماعي لراكبي الطائرة وإن كان واحداً منهم، وبكل بساطة أجاب بـ "نعم"، معللاً ذلك بأسباب صحية تتمثل بمشكلة في مفصل ركبته تجعله لا يصدق هبوط الطائرة ليهرع من مكانه وينزل ليرتاح.
ويقول موصللي، "قبل هبوط الطائرة علي كل قليل تحريك ساقي والوقوف لمنعها من التصلب، وذلك الشعور المتواصل من الألم خلال رحلة الساعات الطويلة يجعلني لا أصدق متى ستحط الطائرة لأنزل منها بأقصى سرعة، ففي الطائرة حين يكون لديك وضع صحي تشعر أنك مقيد وموضوع في تابوت".
ويتابع التاجر السوري، "صحيح أنني أقوم سريعاً لكني رجل كبير في السن، وأنتظر من بقية الركاب احترامي وعدم دفعي خلال قفزهم للوصول نحو البوابة، فتلك مشكلة معقدة ترتبط باحترام الآخر، وقد يبدو أي موقف داخل الطائرة بعد أن هبطت بأمان طبيعياً، ولكن العكس صحيح، فالفطرة البشرية الأنانية تتجسد في كل موقف مهما بدا بسيطاً".
مضيفات الطيران
وتقدم هبة زايد، وهي مضيفة طيران على متن إحدى خطوط النقل الجوي جملة من الأسباب الإضافية لتلك الظاهرة بقولها إن "الأمر مزعج جداً لنا كمضيفات ولبقية الزملاء بمن فيهم مسؤولو قمرة القيادة، فالطائرة حطت بسلام، لماذا كل هذا التدافع الذي قد تنجم عنه أذية أو حوادث ولو كانت بسيطة، أحياناً دفع عجوز ولو عن غير قصد قد يصيبه بأذى".
وتتابع زايد، "وفق خبرتي في الطيران أعتقد أن السبب الرئيس لهذا القيام الجماعي هو حال الملل التي تجتاح الركاب نتيجة الجلوس الطويل الذي يصفه بعضهم بالتكبيل في المقعد مع انعدام سبل راحة فعلية وواقعية، بخاصة في الدرجة الاقتصادية المزعجة للجلوس أساساً، والركاب على الدوام يكررون الكلمات ذاتها بأن المقاعد غير مريحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعتقد هبة أيضاً أن الناس يمتلكون تصوراً خاصاً حول إمكان توفير مزيد من الوقت بذلك التصرف، وتؤكد أن ذلك يجافي الصواب تماماً، إذ إنه على الركاب الانتظار لمدة إضافية في الحافلة التي ستقلهم بين الطائرة وصالة الاستقبال، لذا من ينزل أولاً كمن ينزل أخيراً، وسيتساوى الاثنان في الانتظار.
وتقول مضيفة الطيران إن ركاباً كثر قالوا لها إن إحساساً يصيبهم بتضاؤل حجم مقاعدهم مع اقترابهم من الأرض، مبينة أن ذلك أيضاً ليس سبباً كافياً للاستعجال، فلا يزال أمامهم انتظار حقائبهم في الصالة وختم جوازات سفرهم وبقية الإجراءات، ولكن هبة تسوغ مبررات أخرى للركاب طوال القامة الذين يبدون أحياناً متكورين على أنفسهم خلال الرحلة، وهؤلاء بحسبها يقاتلون ليصلوا بوابة الطائرة ويشعروا بحرية أجسادهم.
غريزة فجائية
مهندس الطيران فايز العاني يصف تلك الحال الجماعية بالهذيان المترابط، إذ إنها غريزة فجائية عامة تشبه حال مشجعي كرة القدم حين يتدافعون بلا مبرر على أبواب الملاعب على رغم امتلاكهم المسبق بطاقات ومقاعد وأماكن للجلوس.
وينحو فايز في حديثه نحو وصف بعض الركاب على وجه التحديد بعديمي المسؤولية أو الشعور، ويصفهم بالأنانيين المستعدين لتحطيم حقائب صغرى أو عكازات عجائز أو مرضى أو غيرهم في سبيل الوصول قبلهم إلى البوابة التي ستفتح في ميعادها مهما تدافعوا للوصول إليها، وفي الوقت ذاته يفضل ألا يشمل جميع المتدافعين بالصفة ذاتها، متحدثاً عن أولئك الذين يعانون رهاب الأماكن الضيقة والمرتفعات إذ يقول "هؤلاء لا يصدقون أن الطائرة حطت، ويشعرون أن عمراً جديداً كتب لهم".
ووفق خبرة فايز فإنه دائماً ما استوقفه مشهد غريب من أولئك القادمين من مقدم الطيارة مع حقائبهم مزاحمين الآخرين خلفهم للوصول نحو البوابة الأبعد منهم، والتي أيضاً سينتظرون مع الجميع لحظة افتتاحها، فيتساءل "لما ذلك الاستعجال؟ أين هو المبرر بالتقافز بين المقاعد على حساب أصحاب الدور الأقرب؟".
تصفيق جماعي
منصور جمعة طيار سابق لطالما كانت تلك الظاهرة مزعجة له، ويكتفي بوصفها بسلوك القطيع المستفز بقوله "لم أفهم يوماً ذلك السلوك القطيعي الذي ينسحب على كل النخب والجنسيات والفئات والأعمار، وخصوصاً أولئك الجالسين في المقدمة، لماذا عليهم اجتياز 200 راكب ليصلوا إلى البوابة؟ هل هو سباق للإفراج عن مساجين طالت مدة اعتقالهم وسيبصرون الحرية؟".
ويضيف جمعة، "هناك حالات خاصة مفهومة ولكن الحال الجماعية هي غير المفهومة أو المبررة، بل هناك شيء أغرب يحدث في بعض الأحيان، فأحياناً ما إن تهبط الطائرة حتى يبدأ ركاب كثر بالتصفيق، لماذا؟، أين الإنجاز بالأمر طالما أن خط سير الرحلة كان طبيعياً جداً؟، وذلك سلوك جماعي أُبلغ عنه في آلاف الرحلات الجوية حول العالم، وهو فقط يعطي انطباعاً عاماً بقلة ثقة الركاب بالقائد".
عدوى سلوكية
حال الوقوف الجماعي لركاب الطائرة وتدافع راكبيها مع لحظة هبوطها يمكن إسقاطه إجمالاً على أسباب متنوعة طبية واجتماعية ونفسية، وكذلك سلوكية وجمعية، ولكنها بالتأكيد ظاهرة شبه عامة لا تراعي التعليمات الأساس لركوب وسائل النقل الجوي، وفي الوقت ذاته يستحيل ضبطها.
وعلى رغم أنها لا تحمل أخطاراً جمة على السلامة العامة للرحلة، ولكنها تحمل سلوكاً مشتكى منه من قبل أطقم الطيران وركاب آخرين أيضاً، وفي كل الأحوال يبقى أن البشر متشابهون في سلوكياتهم الغريزية بمعزل عن نخبويتهم أو جنسيتهم.
يبدو ذلك في أي تجمع بشري بغض النظر عن صفته، فلو كان المثال عن تظاهرات في بلد ما فإنها في لحظة ما ستنضوي على مظاهر شغب وتكسير وتخريب للممتلكات الخاصة قبل العامة في إطار سلوك بشري فطري معدٍ، أحياناً يكفي شخص واحد لإشعال شرارته.