يعتبر الوشم موروثاً تاريخياً وثقافياً وجزءاً من هوية المجتمع التونسي، وتعود جذوره إلى الأمازيغ، السكان الأصليين لشمال أفريقيا، ويسمى بالأمازيغية "تكاز"، ويتخذ عند الأمازيغ بعداً جمالياً للزينة، وتختص به النساء أكثر من الرجال.
بمرور الزمن عادت ظاهرة الوشم عند الشباب بأبعاد ودلالات مختلفة تراوحت بين تخليد ذكرى، أو استحضار موقف، أو للتعبير عن الذات. وتختلف أشكال الوشم من الرموز وصور الحيوانات كالصقور والأسود والثعابين، وصولاً إلى نقش اسم الحبيبة أو الأم، ويكون الوشم إما على الكتف أو على الصدر أو الذراع.
والوشم هو رسوم وعلامات راسخة ترسم على الجسد، عبر غرز الإبرة تحت الجلد ثم يتم تسريب الحبر باتباع الشكل الهندسي أو الرمز المراد رسمه، والذي يبقى مدى الحياة.
وشم الأم
أنيس السعيدي (26 سنة) أكمل دراسته الجامعية، وهو الآن بصدد البحث عن عمل في اختصاصه (الهندسة الميكانيكية)، رسم صورة أمه على ذراعه منذ أكثر من عام، يقول "إنه عربون محبة ووفاء لمن ضحت بالغالي والنفيس من أجلنا"، يصف أمه بـ"المناضلة التي حفرت في الصخر من أجل أن تزرع الفرحة على وجوهنا، لقد كانت امرأة استثنائية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف أنيس بتأثر شديد "كلما أرى صورتها منحوتة على ذراعي، ازداد شغفاً وحباً لأمي، متمنياً لها الشفاء لأنها أصيبت بمرض خبيث وهي تلازم الفراش منذ أشهر".
أنيس يرى أن "الوشم فن وصورة جميلة، ولا يخجل من الكشف عنه أمام الناس لأنه مقتنع بما يفعله"، داعياً إلى "الكف عن وصم الآخر والتنمر على تصرفات الشباب الذي يرسم بالوشم صوراً لصقر أو لأسد أو لأفعى"، معتبراً ذلك "حرية فردية لا دخل للمجتمع فيها".
رفض العائلة
من جهتها، ترددت إيناس بن عمر (23 سنة) في الإفصاح عن دلالات الوشم الذي وضعته فوق معصمها، وهو مجموعة من المكعبات والرموز تحيط بحرف فرنسي هو في الأصل أول حروف اسم صديقها، تقول "أخشى رد فعل عائلتي، لذلك رسمت أشكالاً هندسية للتمويه على الحرف الأول من اسم صديقي"، وتضيف "قمت بهذا الرسم منذ بضعة أشهر، وصديقي استحسنه، وأنا معتزة به، على رغم رفض أبي وأمي، وصراحة لا أفكر في نزعه".
وتنتشر محلات "الوشم الدائم" في المدن الكبرى، وتختلف الأسعار بحسب حجم الرسم والوقت الذي سيستغرقه، وهي من 60 ديناراً (20 دولاراً) إلى 300 دينار (100 دولار).
كنز محلي
تختلف دلالات الوشم من العهود القديمة إلى اليوم، لكنه بعد أن كان مختزلاً في المحيط الضيق للقبائل الأمازيغية، بات اليوم مرتبطاً بفضاء مفتوح وثقافة معولمة جعلت من العالم "قرية كونية".
يرجح أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية الأمين البوعزيزي لـ"اندبندنت عربية" أن "ظاهرة الوشم ليست مغاربية بل هي موجودة في كل قبائل أفريقيا، وفي آسيا في الأزمنة القديمة حيث يوضع الوشم على وجوه البشر، وعلى الحيوانات كالإبل حتى تعرف كل قبيلة إبلها".
ويضيف البوعزيزي أن "الوشم يختزل ثقافة الأمازيغ ويتمثل في جملة من الرموز المستوحاة من محيط القبائل الأمازيغية، ويتم رسمها على وجوه النساء عندما يتزوجن للزينة، كما نجد الرسوم نفسها منقوشة على الخشب أو النسيج، وبخاصة في ما يعرف بـ(البخنوق) في تونس".
يعتبر المتخصص في الأنثروبولوجيا "أن الوشم مكنز محلي صرف لا علاقة له ببقية الحضارات"، لافتاً إلى أنه "في بداية خمسينيات القرن الماضي، مع بداية بناء الدولة الوطنية في تونس، اعتبر الوشم نوعاً من الوصم الاجتماعي، وعلامة من علامات التخلف، حتى إن بعض النساء قمن بنزعه من أجل الزواج".
ويؤكد البوعزيزي أن "العولمة أيقظت الهويات المحلية وتم رد الاعتبار إلى الوشم فعاد إليه الشباب بأشكال مختلفة، واصفاً هذا السلوك بأنه "نوع من إثبات الذات والمصالحة مع الثقافة المحلية".
ويعتبر أستاذ الأنثروبولوجيا أن "المؤثرين في العالم اليوم هم نجوم الراب (Rap) والرياضة، وهؤلاء يمثلون القدوة للشباب الباحث عن إثبات الذات ولفت الانتباه من خلال ابتكار أشكال هندسية وعلامات وصور للانخراط في فضاء معولم جديد".
المراقبة الطبية
يذكر أن فتح محل للوشم الدائم في تونس يتطلب ترخيصاً من وزارة الصحة لمراقبة الأدوات الطبية المستعملة، وهي في أغلبها مستوردة، وإخضاعها للمواصفات المعمول بها دولياً حفاظاً على صحة طالبي الخدمة.
ويؤكد محمد وهو صاحب محل للوشم الدائم في مدينة الحمامات (شرق العاصمة)، أن "الوشم الدائم لا يمكن إزالته إلا بالليزر الطبي الخاص، لذلك فهو يلفت انتباه طالبي الخدمة ويوجههم إلى أن الرسوم المرتبطة بموقف ظرفي أو بقصة محدودة في الزمن لا يمكن إزالتها".
تعكس الوشوم شخصية حاملها، وهي تعبير رمزي عن حالات إنسانية مختلفة، عكس ما كان عليه الوشم في القبائل الأمازيغية القديمة، ومع انتشار ممتهني الوشم في البلاد باتت صور الوشوم عند الشباب مألوفة في الشارع التونسي، على رغم ما تثيره من فضول.