وصل الخبر إلى خالد أن ضراراً قد أُسِرَ بيد الروم، وأنه قَتَلَ من الروم خلقاً كثيراً، فعظُم ذلك على خالد، ثم أرسل إلى أبي عبيدة يستشيره، فبعث إليه أبو عبيدة يقول له: (سر إليهم فإنك تطحنهم بإذن الله تعالى)، فلما وصل الجواب إلى خالد قال: (والله ما أنا ممن يبخل بنفسه في سبيل الله، أطلقوا الأعنة، وقوّموا الأسنة، فإذا أشرفتم على العدو فاحملوا حملة واحدة ليُخَلَّص فيها ضرار إن شاء الله)، ثم تقدم أمام القوم وأخذ يرتجل:
اليوم يوم فاز فيه من صدق لا أرهب الموت إذا الموت طرق
فبينما خالد يترنم بهذا البيت إذ نظر إلى فارس على فرس طويلة، وبيده رمح وهو لا يبين منه إلا الحدق، والفروسية تلوح من شمائله، وعليه ثياب سود وقد تظاهر بها من فوق لامته، وقد خرم وسطه بعمامة خضراء، وسحبها على صدره ومن ورائه، وقد سبق أمام الناس كأنه نار، فلما نظر إليه خالد قال: (ليت شعري! من هذا الفارس؟ وايم الله إنه لفارس شجاع)، ثم اتبعه خالد والناس، وكان هذا الفارس أسبق الناس إلى المشركين.
فأما رافع بن عميرة ومن معه فما ظنوا إلا أنه خالد بن الوليد، ووصل الفارس المذكور إلى جيش المسلمين، فصاح خالد والمسلمون: (لله درك من فارس بذل مهجته في سبيل الله! وأظهر شجاعته على الأعداء، اكشف لنا عن لثامك)، قال: فمال عنهم، ولم يخاطبهم، وانغمس في الروم، فتصايحت به الروم من كل جانب وكذلك المسلمون، وقالوا: (أيها الرجل الكريم أميرك يخاطبك وأنت تُعْرِضُ عنه؟ اكشف عن اسمك وحسَبِك لتزداد تعظيماً)، فلم يرد، فلما بعُد عن خالد سار إليه بنفسه، وقال له: (ويحك لقد شغلت قلوب الناس وقلبي بفعلك، من أنت؟).
فلما لجَّ عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه بلسان التأنيث وقال: (إنني يا أمير لم أعرض عنك إلا حياءً منك؛ لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور، وإنما حملني على ذلك أني محرقة الكبد)، فقال لها: (من أنت؟)، قالت: (أنا خولة بنت الأزور المأسور بيد المشركين، أخي هو ضرار، وقد أتاني الساعي بأن ضراراً أسير فركبت وفعلت ما فعلت)، قال خالد: (نحمل بأجمعنا، ونرجو من الله أن نصل إلى أخيكِ فنفكه).
وفعلاً حملوا عليه حملة شعواء، وخولة مع مقدمة المقاتلين حتى خلَّصوا ضراراً من الأسر.
وهذا يدل على أن المرأة العربية لو أُعطيت الفرصة، لتغلبت على كثير من الرجال.