هنري كيسنجر وإرثه الدموي في عامه الـ100

منذ 1 سنة 203

في خريف عام 2010، عندما كان الكاتب الصحافي كريستوفر هيتشينز يحتضر جراء معاناته من مرض السرطان، وكان يسجل عملية احتضاره علانية، قال إنه يتمنى أن يبقى على قيد الحياة لما يكفي لكتابة نعي هنري كيسنجر. وقال في تصريحات لـ«إن بي آر»: «أصدقكم القول إنه يؤلمني التفكير في أن أشخاصاً مثله سيظلون على قيد الحياة بعد موتي».

توفي هيتشينز بعد ذلك بعام واحد فقط عن 62 عاماً. وبعد 12 عاماً، يحتفل كيسنجر -الذي ندد به هيتشينز باعتباره مجرم حرب- بعيد ميلاده الـ100 في 27 مايو (أيار)، في الوقت الذي انهالت فيه التهاني والدعوات من جانب كثيرين من العاملين بمؤسسة السياسة الخارجية.

واحتفالاً بهذه المناسبة، أعاد أرشيف الأمن الوطني (مؤسسة خاصة لا تقدر بثمن تكرس جهودها للكشف عن الوثائق السرية، غالباً من خلال دعاوى قضائية مرهقة ومكلفة) إصدار 38 وثيقة، وروابط لعشرات الوثائق الأخرى، من فترة عمل كيسنجر مستشاراً للأمن الوطني ووزيراً للخارجية، في ظل إدارتي الرئيسين ريتشارد نيكسون وغيرالد فورد. وتكشف الوثائق بوضوح السمات والأفعال التي وجدها هيتشينز مقيتة للغاية في كيسنجر.

كان لكيسنجر لحظات انتظار خلال فترات وجوده في السلطة، بين عامي 1969 و1976: الوفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وانفتاح الصين، ودبلوماسيته المكوكية في الشرق الأوسط (رغم أن الرئيس جيمي كارتر هو الذي نجح في إقرار سلام دائم بين إسرائيل ومصر).

تبقى تشيلي النقطة الأشد سواداً في إرث كيسنجر الذي كان العقل المدبر للسياسة الأميركية الرامية لزعزعة استقرار النظام التشيلي، بقيادة الرئيس الاشتراكي المنتخب ديمقراطياً، سلفادور أليندي. وقدم دعماً كاملاً لأوغستو بينوشيه، الجنرال التشيلي الذي قاد انقلاباً للإطاحة بأليندي في سبتمبر (أيلول) 1973؛ بل وغض الطرف عن القمع الدموي الذي مارسه بينوشيه بحق أنصار أليندي، بما في ذلك تدبير حادث اغتيال بتفجير سيارة مفخخة بحق المعارض البارز في المنفى، أورلاندو ليتلير. وأسفر الحادث كذلك عن قتل زميل أميركي له يدعى روني موفيت، في شوارع العاصمة واشنطن.

لم تكن هذه مجرد حالة اضطلع خلالها كيسنجر بأعمال نيكسون القذرة. في الواقع، كان نيكسون يفكر في مقترح تقدم به مسؤول رفيع بوزارة الخارجية (أحد مساعدي كيسنجر) من أجل التوصل لتسوية مؤقتة مع أليندي. إلا أن كيسنجر أرجأ اجتماعاً كان مقرراً في البيت الأبيض مع مساعده، وأقنع نيكسون بسحق الحكومة الجديدة بقيادة أليندي، بدلاً عن ذلك.

بعد ذلك، أوكلت لكيسنجر مهمة قيادة لجنة سرية لـ«جعل الاقتصاد يصرخ»، حسب تعبير نيكسون، وأصدر أوامره لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) بتقديم دعم لسائقي الشاحنات المضربين، ومساندة مدبري الانقلاب داخل المؤسسة العسكرية.

وبمجرد أن نجح الانقلاب، بدأت أعمال التعذيب والقمع. وحث مسؤولو وزارة الخارجية رئيسهم على التنديد ببينوشيه بسبب انتهاكاته لحقوق الإنسان؛ لكن كيسنجر ضرب بهذه المناشدات عرض الحائط؛ بل وأخبر بينوشيه خلال اجتماع خاص بينهما، أنه: «نرغب في مساعدتك، وليس تقويضك». واشتكى كبير مسؤولي وزارة الخارجية المعنيين بأميركا اللاتينية من أن سياسة كيسنجر تشكل «انتهاكاً صارخاً لمبادئنا والأسس التي تقوم عليها سياساتنا». ومع ذلك، تجاهل كيسنجر التحذيرات.

وفعل كيسنجر الأمر ذاته بعد 3 سنوات، بعد انقلاب الأرجنتين الذي كان قادته أكثر وحشية وسفكاً للدماء. وغض كيسنجر الطرف عن «عملية كوندور»، عملية اغتيال ضد اليساريين بمختلف أرجاء أميركا اللاتينية. في ذلك الإطار، أخبر وزير خارجية الأرجنتين: «انظر، التوجه الأساسي لنا أننا نود أن تنجحوا». وحث كيسنجر الوزير الأرجنتيني على السعي للنجاح (والمقصود هنا قمع المنشقين والنقاد) في أسرع وقت ممكن. وفي وقت لاحق، أصدر مسؤولون بوزارة الخارجية وسفراء اعتراضات على الحكام المستبدين المسؤولين عن «عملية كوندور»، إلا أن كيسنجر رفض جهودهم بحسم، وطالب بـ«عدم اتخاذ أي إجراءات إضافية في هذا الأمر».

كل ما سبق مجرد جزء من أعمال كيسنجر. في ربيع عام 1971، بعد الانقلاب في شرق باكستان بقيادة الجنرال أغا محمد يحيى الذي تسبب في مقتل ملايين المدنيين، أعلن كيسنجر دعمه للانقلاب، ووجَّه المسؤولين الدبلوماسيين: «لا تضغطوا على يحيى في الوقت الراهن».

وبطبيعة الحال، كان الحدث المهيمن خلال فترة وجود كيسنجر في السلطة، التفجيرات المروعة في شمال فيتنام، والتي لم تُجدِ شيئاً في وقف الحرب أو تحويل مسارها، وكذلك التفجيرات السرية في كمبوديا. وتسببت الأخيرة -التي كانت عبارة عن سلسلة من الهجمات الجوية بدأت في مارس 1969 واستمرت أكثر من عام تحت اسم شفري «خطة الإفطار» و«عملية القائمة»- في مقتل 150 ألف مدني تقريباً. كما تسببت في زعزعة استقرار كمبوديا بأكملها، لدرجة دفعت «الخمير الحمر» لسد الفراغ، وقتلوا مليونين آخرين على الأقل، ما يعادل نحو ربع سكان البلاد.

اللافت أن الأفعال التي أقر كيسنجر باقترافها (بعضها حاول إخفاءه أو نفيه لأطول فترة ممكنة)، حاول تبريرها على أساس مصالح الأمن الوطني. وحتى خلال عمله الأكاديمي باعتباره بروفسوراً في جامعة هارفارد، عمد إلى تصوير نفسه باعتباره أستاذ «السياسات الواقعية» التي تستلزم بعض الأحيان الإقدام على أفعال غير لطيفة، بالاعتماد على أشخاص غير لطفاء.

ومع ذلك، نجد أنه في واقع الأمر أضر بشدة بالمصالح الأميركية، بجانب انتهاكه للقيم الأميركية، وتصديره صورة بشعة لأميركا أمام العالم (صورة تمكن منافسونا خلال الحرب الباردة من استغلالها بسهولة).

لطالما كافح الدبلوماسيون الأميركيون في مواجهة التوتر القائم بين مصالح البلاد وقيمها؛ لكن الدبلوماسيين الأكثر حصافة يدركون جيداً أن الأمرين ليسا بعيدين بعضهما عن بعض، وبالتأكيد لا يستثني بعضهما بعضاً، وإنما يمكن التوفيق بينهما. ورأوا أن السعي وراء تحقيق المصالح الوطنية يجب أن يضرب بجذور راسخة في مجموعة من القيم.

المؤكد أن السياسة الواقعية التي تزعمها كيسنجر خلت من مركز أخلاقي. وبعد سنوات عديدة، لا تزال الولايات المتحدة متضررة بسبب الفراغ الذي خلَّفه اختفاء القيم من السياسات الخارجية الواقعية التي انتهجها كيسنجر؛ بل ولا تزال السياسات الواقعية ذاتها متضررة هي أيضاً.

* خدمة «نيويورك تايمز»