في لقاء صيفي على أحد شواطئ البحر الأبيض المتوسط، شاءت المصادفة أن يجلس إلى جواري مجموعة من الشباب، بدا عليهم التنوع العمري، ما بين العشرين والثلاثين، عرفت من ثنايا حديثهم أنهم باحثون في العلوم السياسية، بعد تبادل التعارف، سألني أحدهم: ما الذي يحدث في إقليم الشرق الأوسط، خصوصاً أنني ألحظ متغيرات جديدة في التقارب بين كل دول الإقليم؟
قلت له: سؤالك في توقيته، بالفعل وجه الإقليم يتغير الآن، ثمة مقاربات ومسارات جديدة، لم يشهدها الإقليم منذ نصف قرن مضى.
اللحظة العالمية تحتاج إلى شراكة مستقبلية، طوفان الأحداث المتسارع والمتلاحق فرض على العقل الشرق أوسطي، أن يعيد ترتيب رقعة الشطرنج من جديد، فالتحديات باتت أقوى من أن يواجهها أحد منفردا، خرائط الإقليم لم تعد قابلة لإعادة إنتاج أزمنة ماضية، الجميع أدرك أن الدخول إلى حزام الاستقرار يتطلب مزيدا من الحكمة الاستراتيجية، والرشادة السياسية، مصالح الدول تتقدم على المآرب الشخصية، علمتنا السياسة أن الاختلاف وارد، والاتفاق وارد أيضا.
المياه السياسية تعيد ترتيب مساراتها من جديد في بحار الإقليم. ثمة مباحثات ولقاءات مباشرة، فاقت توقعات وتقديرات الحالمين بمستقبل أفضل للمنطقة والإقليم.
من مدينة «العلا» بالمملكة العربية السعودية، في الخامس من يناير (كانون الثاني) عام 2021، جاءت بشائر الاستقرار تطرق أبوابا جديدة، كانت تبدو عصية على التجارب، أدرك زعماء وقادة الدول الإقليمية أهمية استثمار لقاء العلا، رحب الجميع به، وتم البناء عليه.
ما بين الجهود الدبلوماسية والسياسية والأمنية، ذابت الجلطات في شرايين رئيسية داخل خرائط الإقليم. صفحات جديدة من دون خلافات قديمة، شاهدنا مراحل التحول في هذا السياق، مصالحة بين الرباعي العربي مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وبين قطر، رأينا سوريا تعود إلى مقعدها في جامعة الدول العربية عضواً كاملاً، عاصرنا لقاءات واتصالات جرت بين الأطراف المؤثرة في الإقليم، أبوظبي بدأت هذه المسارات بمصافحة أنقرة التي استدارت نحو الرياض. الأمر نفسه لم يختلف في جوهره خلال مشهد جمع القاهرة وأنقرة في ضيافة الدوحة على هامش كأس العالم 2022، الأزمات دائماً معيار كاشف لأهمية العلاقات بين الدول. زلزال 6 فبراير (شباط) في سوريا وتركيا، وحد المشاعر الإنسانية، وقرب المسافات، امتدت الخيوط إلى دول شمال أفريقيا، رأينا العلاقات المتسارعة بين الجزائر العاصمة وأنقرة، وتبادل السفراء بين العاصمتين، والإعلان التركي عن زيارة إلى دول شمال أفريقيا العربية. كل هذا حدث بينما كان شرق الإقليم على موعد مع تغيير جذري، وعميق، لكتابة مرحلة أخرى بين الدول العربية وإيران.
الصورة تقترب من الاكتمال. قادة الإقليم نجحوا في الوصول إلى مخارج للطوارئ في الوقت المناسب، أدركوا أن المستقبل لن ينحاز إلى دعاة الفرقة، فسابقوا الزمن في الاصطفاف الإقليمي. الجميع جرب فواتير الخسائر الباهظة جراء التنافس وصراع الإرادات والنفوذ. كل الشواهد تؤكد أن الانقسامات تساوي انهيارات محققة. الإقليم جزء من العالم الذي تعاد هندسته من جديد، إما أن يكون الإقليم ممثلا وفاعلا في النظام العالمي الجديد، وإما أن يختار لنفسه الانعزال والانقسام وغياب الإرادة، وهذا الخيار الأقسى والأصعب سياسيا واقتصاديا وأمنيا.
الشاهد هنا أن القوى الحية والحيوية في الإقليم كانت تعرف وتدرك أن التغير، ومد جسور التواصل والتلاحم بين شعوب إقليم الشرق الأوسط، باتا ضرورة حتمية من الخطأ إغفالها.
ثمة سؤال آخر يطرح نفسه... ما الذي سيترتب على هذه الهندسة الجديدة للإقليم؟ الواقع يقول إن إعادة ترتيب العلاقات الإقليمية سوف تكون في مصلحة الجميع على مختلف الأصعدة. فعلى الصعيد السياسي قطعاً، ستتوقف التدخلات في الشؤون الداخلية بين دول الإقليم من بعضها البعض، وستزداد مناعة الإقليم ضد أي محاولات لزعزعة الاستقرار من خارجه البعيد.
أما على الصعيد الأمني، فلا شك أن هناك متغيرات ستحدث في كيفية التفاعل والتعاطي مع مقتضيات الأمن القومي لدول الإقليم، لا سيما أن هناك تهديدات من تمدد بعض التنظيمات والجماعات الإرهابية في الإقليم.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فهذه الدول تمتلك مقدرات كبيرة، يمكن استثمارها وتوظيفها في ازدهار ورخاء الشعوب، من خلال فتح شراكات اقتصادية عابرة للحدود بين دول الإقليم، بما يحقق الاكتفاء الذاتي لها، في ظل الأزمات العالمية الكبرى التي يزداد حصارها يوما بعد الآخر.
كل هذه الأصعدة، وكل هذه الهندسة والترتيبات التي يشهدها الإقليم الآن، ستقود إلى مرحلة من الاستقرار، ربما باتت شعوب الإقليم في أمس الحاجة إليها بعد أن أنهكتها تداعيات الخلافات السابقة، التي وقفت وراءها أطراف خارجية، لم يكن من مصلحتها استقرار الإقليم.
إذن من الذكاء الاستراتيجي، أن نجد دول الإقليم تقرأ بعناية تفاصيل المستقبل، وتجاعيد الماضي، لتسترد عافيتها، وتكتب طبعة جديدة من تاريخ المنطقة والإقليم.