هل يمكن لليبرالية إنقاذ نفسها؟

منذ 1 سنة 149

الليبرالية تحت الحصار ـ وهذه ليست مشكلة للحزب الديمقراطي الأميركي فحسب، والذي ربما يواجه من جديد إما خسارة الانتخابات أمام دونالد ترمب أو إعلان النصر بأغلبية ضئيلة. في مختلف أنحاء العالم، يجري النظر إلى الرؤية الليبرالية السياسية في مجملها - مع التزاماتها تجاه الحكومة المحدودة، والحرية الشخصية، وسيادة القانون - على أنها تعاني أزمة.

منذ وقت ليس بالبعيد، أعلن الليبراليون «نهاية التاريخ» بعد انتصارهم في الحرب الباردة. ومع ذلك، ساور الليبرالية على مدار سنوات كثيرة، شعور بأنها تقف على حافة الهاوية؛ في ظل صعود الصين، ونجاح الشعبويين اليمينيين المتطرفين، ووجود شعور بالتأزم والركود.

التساؤل هنا: لماذا يجد الليبراليون أنفسهم في هذا الموقف باستمرار؟ لأنهم لم يتركوا الحرب الباردة وراءهم. خلال هذه الحقبة، أعاد الليبراليون اختراع آيديولوجيتهم، التي تضرب جذورها في عصر التنوير والثورة الفرنسية، لكنهم أعادوا اختراعها على نحو أسوأ. تركز اهتمام ليبرالية الحرب الباردة منشغلة باستمرارية الحكومة الليبرالية، وإدارة التهديدات التي قد تعطلها، وهي الأمور نفسها التي تشغل الليبراليين اليوم. وسعياً لإنقاذ أنفسهم، يتعين على الليبراليين التراجع عن الأخطاء التي اقترفوها خلال الحرب الباردة وقادتهم إلى المأزق الحالي.

قبل الحرب الباردة، طالب الرئيس فرانكلين روزفلت بتجديد دماء الليبرالية، استجابة لأزمة الكساد العظيم، مشدداً على أن الاضطرابات الاقتصادية كانت السبب الجذري لجاذبية الطغيان. وجاءت إدارة روزفلت بعد أكثر من قرن كانت فيه الليبرالية تعد بتحرير البشرية من قيودها بعد آلاف السنين من الهياكل الهرمية - عبر تفكيك الهياكل الإقطاعية، وخلق فرص أكبر للحراك الاقتصادي والاجتماعي (على الأقل للرجال) وكسر الحواجز المعتمدة على الدين والتقاليد. في أقصى صورها، كانت الليبرالية تعني ضمناً أن واجب الحكومة تقديم يد العون للناس كي يتغلبوا على القمع من أجل مستقبل أفضل.

ومع ذلك، بعد سنوات قليلة فقط، ظهرت ليبرالية الحرب الباردة التي جاءت بمثابة رفض للتفاؤل الذي ازدهر قبل الأزمات التي ضربت العالم منتصف القرن العشرين. وبعد أن شهدوا الدمار المؤلم الذي لحق بتجربة ألمانيا القصيرة مع الديمقراطية في فترة ما بين الحربين العالميتين، عاين الليبراليون تحول حليفهم الشيوعي في تلك المعركة ضد الفاشية إلى عدو مخيف.

واستجابوا لذلك بإعادة صياغة مفهوم الليبرالية. أكد فلاسفة مثل المحاضر بجامعة أكسفورد إزايا برلين على مفهوم الحرية الفردية، والتي جرى تعريفها على أنها غياب التدخل، خاصة من جانب الدولة. وبذلك انتهى الاعتقاد بأن الحرية مكفولة من خلال المؤسسات التي تعمل على تمكين الإنسانية. وبدلاً عن الالتزام بجعل الحرية أكثر مصداقية لعدد أكبر من الناس - على سبيل المثال، من خلال الوعد بمستقبل مشرق لهم - أعطى هؤلاء الليبراليون الأولوية للقتال ضد الأعداء اللدودين الذين قد يدمرون النظام.

كانت هذه ليبرالية الخوف، وكان هذا الخوف مفهوماً؛ فالليبرالية كان لها أعداء. في أواخر الأربعينات، استولى الشيوعيون على الصين، في حين سقطت أوروبا الشرقية خلف ستار حديدي. إلا أن إعادة توجيه الليبرالية نحو الحفاظ على الحرية انطوى على مخاطر خاصة، والاحتمال الأكبر أن يبالغ أي شخص يتملكه الخوف في مدى خطورة أعدائه في الواقع، وأن يبالغ في رد فعله تجاه التهديد الماثل أمامه. خلال الحرب الباردة، أدى الاهتمام بالتحرر من الاستبداد والدفاع عن النفس ضد الأعداء، في بعض الأحيان، ليس فقط إلى فقدان ذات الحرية التي كان من المفترض أن يهتم بها الليبراليون في الداخل، وإنما كذلك إلى اشتعال فترات عنيفة من الإرهاب في الخارج، مع دعم الليبراليين حكاماً مستبدين أو خوضهم حروباً باسم محاربة الشيوعية. وفي خضم هذا الصراع العالمي الوحشي، فقد الملايين حياتهم داخل ميادين القتل، وسقط كثيرون منهم على أيدي أميركا ووكلائها الذين يقاتلون باسم «الحرية».

الأمر المحبط أن الاتحاد السوفياتي قدم وعوداً بالحرية والتقدم كان الليبراليون يظنون أنها حكر لهم. في القرن التاسع عشر، أطاح الليبراليون الأرستقراطيين والملوك، ووعدوا بعالم من الحرية والمساواة بدلاً عنهم. وتصور الليبراليون أمثال السياسي والرحالة الفرنسي ألكسيس دو توكفيل، رغم قلقهم من التجاوزات المحتملة للحكومة، أن الديمقراطية صورة من صور السياسة التي تتيح فرصاً مذهلة جديدة لتحقيق المساواة بين المواطنين. ورغم أن هؤلاء الليبراليين أولوا قدراً مفرطاً من الثقة في الأسواق لكونها أداة إنجاز التحرر والمساواة، فإنهم ناضلوا في نهاية الأمر من أجل تصحيح هذا الخطأ. علاوة على ذلك، ساعد ليبراليون، مثل الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل، في ابتكار الاشتراكية.

وجاءت الحرب الباردة لتبدل كل ذلك، وتحولت الاشتراكية إلى كلمة بذيئة في عرف الليبراليين لعقود من الزمن، وخلص الليبراليون إلى أن العاطفة الآيديولوجية التي قادت الملايين في مختلف أنحاء العالم إلى أحضان الشيوعية تعني أن عليهم أن يمتنعوا هم أنفسهم عن الوعد بالتحرر. ولم يكن التحول الذي طرأ على الليبرالية خلال الحرب الباردة ليشكل أهمية كبيرة اليوم، لو أن الليبراليين انتهزوا الفرصة لإعادة النظر في عقيدتهم عام 1989. إلا أن ضباب انتصارهم الجيو - سياسي سهل عليهم تجاهل أخطائهم، رغم العواقب طويلة الأجل التي نعايشها اليوم.

بدلاً عن ذلك، ضاعف الليبراليون جهودهم. وبعد عقود عدة من الحروب التي لا نهاية لها ضد الأعداء، واتباع نموذج الاقتصاد «الحر» على نحو متزايد في الداخل وفي جميع أنحاء العالم، يشعر الليبراليون الأميركيون بالصدمة بسبب ردود الفعل السلبية.

وانطلق استطلاع ضخم على الليبرالية عام 2016، تمخض عن فوز ترمب الساحق في الانتخابات. وظهرت كتب من عينة «لماذا فشلت الليبرالية؟»، من تأليف باتريك دينين، والذي حقق أعلى مبيعات حينها. وفي خضم محاولاتهم المحمومة الدفاع عن أنفسهم، تمسك الليبراليون بمصطلحات مجردة، مثل «الحرية» و«الديمقراطية» و«الحقيقة»، عادّين أن البديل الوحيد القائم هو الطغيان والاستبداد. ومن خلال ذلك، شتتوا أنظارهم بعيداً عن الأخطاء التي اقترفوها، وما يتعين عليهم فعله لإصلاحها.

وقد أخفق كل من معسكر الهجوم والدفاع عن الليبرالية، في إدراك أنه مثلما الحال مع جميع المنظومات الفكرية، فإن الليبرالية ليست أمراً عليك أن تقبله أو ترفضه كما هو. حقيقة أن الليبراليين أحدثوا تحولاً هائلاً في رؤيتهم خلال الحرب الباردة، تكشف عن أنه يمكن إحداث تحول آخر جديد. وبإمكان الليبراليين إحياء الوعود التي تحملها فلسفتهم اليوم من خلال إعادة ربطها بدوافعها الأولى المبكرة.

السؤال الآن: هل هذا محتمل؟ في عهد إدارة بايدن، تحولت الصين وأوروبا الشرقية - ذات المناطق التي شهدت أحداثاً صدمت الليبراليين خلال الحرب البادرة ودفعتهم لموقفهم الراهن من البداية - إلى وضع يشبه أجواء الحرب الباردة. وفي ظل إدارة بايدن، ومن قبله ترمب، يعامل الخطاب الصادر عن واشنطن، الصين على أنها مصدر تهديد حضاري.

وفي تلك الأثناء، كان غزو فلاديمير بوتين غير القانوني لأوكرانيا سبباً لجعل أوروبا الشرقية، من جديد، ساحة للصراع بين قوى الحرب وقوى القمع. ويحلو للبعض ترديد أن الحرب بأوكرانيا ذكّرتهم بهدفهم الحقيقي.

إلا أن إلقاء نظرة من قرب أكثر على الداخل، تثير الشكوك حول صحة هذا الادعاء؛ فترمب يبقى المرشح الجمهوري المحتمل في الانتخابات الرئاسية عام 2024 (إذا لم يكن الفائز المحتمل في الانتخابات). ومع ذلك، يبدو أن الليبراليين يراهنون في سعيهم للنجاح ليس على بناء رؤية إيجابية بخصوص مستقبل أميركا، وإنما على نجاح المحاكمة في حماية البلاد.

* خدمة «نيويورك تايمز»