"هل الأسد حقا ملك الغابة وحيواناتها؟" سيجيب الأطفال والكبار أنه كذلك من دون تردد، سواء طرح السؤال على طفل يعيش في غابات الأمازون أو في دولة إسكندنافية. فالجميع يعرفون أن الأسد هو ملك الغابة رغم أنه لا يعيش إلا نادراً فيها، بل يسكن السهول البرية.
الأسد هو الملك رغم أن النمر أكبر حجماً وأسرع منه ويصطاد بوتيرة أعلى، لكن الأخير يمكن وصفه بالمحارب لأنه يعيش وحيداً إلا في مواسم التزاوج، بينما يستحق الأول لقب الملك لأنه يدير مملكته كالملك حيث تصطاد العائلة من أجله ويحمي القطيع بعينين حادتين وبحزم تجاه العائلات الأخرى أو الحيوانات المتطفلة، ولا يصطاد إلا في الظروف التي تتطلب جهوده للتحرك من تحت الظل، ويأكل أولاً من أفضل مقاطع الفريسة وبعد أن ينتهي يأتي دور اللبوات وأشبالها، ويمارس الأسد دور الأبوة تجاه الأشبال بينما تقتل النمور الذكور في حالات متواترة المواليد الصغار لدفع اللبوة إلى التزاوج مرة جديدة.
وأخيراً يتم تداول السلطة بين الأسود عبر نظام الخلع من على كرسي العرش. فالأسد المسيطر يتعرض سنوياً لمواجهة الأسود الشابة التي تريد الحصول على الإناث. ويدافع الأسد الملك عن عرشه سنوات كثيرة إلى أن يهرم ويكبر في السن، ويحتاج الأسد البالغ إلى أرطال كثيرة من اللحم فكيف بالأسد المسن والعجوز أو المصاب إصابة مميتة، فإنه سيموت وحيداً بعدما تتخلى عنه القبيلة، بغض النظر عن بطولاته حين كان مقداماً وشجاعاً وصاحب سلطة وقائداً لقطيعه وملقي الرعب في صدور الحيوانات القريبة والبعيدة وقلوب منافسيه من الأسود.
ترجم ابن المقفع "كليلة ودمنة"عن الهندية في العصر العباسي (ويكيبيديا)
هذا كله والأسود حول العالم كانت من الحيوانات السنورية المقبلة على الانقراض. ولولا قرع جرس الإنذار أواخر القرن الـ20 لانقرضت الأسود الأفريقية، بعدما انقرضت أنواع منها في آسيا وأميركا الجنوبية.
في الهند التي كانت موطناً للأسود، بات عددها المتبقي 674 أسداً، وفقاً لإحصاءات 2020. أما الأسود الأفريقية مجتمعة وعلى رغم حمايتها منذ عقود فإن عددها لا يتعدى 20 ألفاً اليوم، وما زالت عمليات الصيد الجائرة تقلل من أعدادها بسبب الطلب على لحم وعظام الأسود إذ يحب الآسيويون الشرقيون عظام الأسد المغلية بعد إضافة السائل إلى خليط نبيذ الأرز المشهور في السوق الصينية. أما دقيق طحن العظام فيتم وضعه في كعكة عظام النمر المفضلة في الصين وجارتها فيتنام.
ملك الأطفال والغابة وعوالمهما
الأسد ملك الحيوانات في قصص الأطفال والأفلام والمسلسلات التي تقدم لهم مغامرات الحياة التي ستواجههم في قالب مسرحي تكون الحيوانات أبطاله وممثلي أدوار البشر فيه. وهو كذلك بطل القصص السياسية التي يقرأها الكبار مثل "كليلة ودمنة" المشهور في أنحاء العالم بعد ترجمته إلى كل اللغات، ومثله كثير من الأساطير الآشورية التي تمجد الأسد، والأساطير الأفريقية التي أعيد لها الاعتبار في المرحلة السابقة وتمت ترجمتها إلى لغات العالم.
وحين سألنا أطفالاً في الصفوف الدراسية الأولى عن السبب الذي يجعل الأسد ملكاً على بقية الحيوانات، أجاب بعضهم لأنه سريع ولأن فوق رقبته ورأسه لبدة من الشعر تشبه التاج أو لأن النار تخرج من عينيه حين تنظر فيهما أو لأنه يرى في الليل أو لأن أنيابه حادة وقوية وتنغرس في رقبة الفريسة حتى قصبتها الهوائية لمنعها من التنفس وخنقها والتهامها، ولأن أظافره طويلة يمكنها أن تسقط فيلاً على الأرض إذا ما تشبثت بجلده كما أجاب الأطفال في الصفوف الابتدائية. وأضافوا إجابات أوسع تتعلق بتوصيفات القوة، مثل أنه شجاع ولا يهرب وأنه مقدام لأنه يبدأ الهجوم، وأيضاً متشاوف ويترك للبواته أمر الصيد ولا يتدخل إلا في الظروف الطارئة وأوقات الجوع الصعبة أو من أجل فريسة كبيرة، وأجاب البعض أيضاً لأن اللبوات والأشبال تتناول الطعام بعد خروجه من غرفة الطعام.
في موقع "Kidadl" للأطفال كتبت سارة نيامكي أن "الحيوان الوحيد الذي يعرفه كل طفل عن ظهر قلب يحمل ملك الغابة". وتجيب نيامكي عن سؤال "كيف أصبح الأسد ملك الغابة؟" بأن "الحيوانات المفترسة الأخرى يمكنها أن تكون في خدمة الأسد مثل الفهود والنمور والذئاب ولكنها لن تنافس الأسد القوي الذي يمكنه قطع رأس الضبع بضربة واحدة بمخلبه". وتكمل كاتبة قصص الأطفال الأميركية بأن الأسد يمكن أن يجري بسرعة 80 كيلومتراً في الساعة، ويقفز في قفزة واحدة مسافة 11 متراً. وتقول إنه، بحسب الحوادث فقد استنتجنا أنه لا يمكن للإنسان التغلب على أسد في مواجهة مباشرة من دون سلاح مؤذ، وقوة الأسد تظهر في الكتلة العضلية والسرعة وخفة الحركة.
سياسي وأسطوري ورفيق الملوك
الأسد ملك الغابة لدى الأطفال، ولكنه كائن سياسي للكبار بامتياز. فكما استعارابن المقفع لسان الحيوان من التراث الهندي الموغل في القدم، فقد فعل الأمر نفسه فلاسفة ومفكرون كثر حول العالم، وكان الهدف من هذه التورية إخفاء باطن المعاني المقصودة خوفاً من الاضطهاد أو من عقوبة السلطان فتمت كتابتها على ألسنة الحيوانات حيث يكون الأسد الملك أو رأس الدولة أو الحاكم المطلق في مختلف هذه القصص التراثية أو التاريخية الثمينة، ومنها قصص الكتاب السياسي الأشهر في العالم "كليلة ودمنة" الذي يقال إن المفكر والدبلوماسي العربي عبدالله ابن المقفع ترجمه عن الهندية في العصر العباسي كوسيلة لتقديم النصح للحكام ووزرائهم في كيفية إدارة الدولة في الداخل وفي علاقاتها مع الخارج، وقد برهن عدد من الباحثين العرب في علوم السياسة أن الفيلسوف الإيطالي الشهير نيكولو مكيافيلي قد استعان بشكل كبير بكتاب "كليلة ودمنة" سواء بترتيب فصول كتابه وعناوينه الداخلية وكذلك في مواضيعه التي تقدم النصائح للسلطات من أعلى الهرم إلى أسفله في كيفية الإدارة.
وكمكيافيلي توسع ابن المقفع في النصوص الهندية مضيفاً إليها كثيراً من رؤيته السياسية لكيفية الحكم تتناسب مع الواقع السياسي الذي عايشه مع تلاشي عصبية الإمبراطورية العباسية بسبب اتساعها الهائل الذي أضعف سلطتها المركزية، وكان الصراع على السلطة وعلى عروش الممالك البعيدة بات علنياً. ويقال إن ابن المقفع مات اغتيالاً بالسم بسبب مواقفه السياسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت الكتابات المنقولة على ألسنة الحيوانات رائجة في تراث آسيا الاستوائية والمدارية خلال الحضارات الهندية والهندو- صينية التي استوطنتها على مر آلاف السنين، ويقال إن الأسد الحقيقي والمرئي نافس التنين الصيني في بعض العصور الغابرة.
وفي العصور الحديثة، ومنذ القرن الـ18، بدأ الأوروبيون يجمعون قصصهم التراثية وأشهرها التي جمعها الباحثان الألمانيان الأخوان غريم وصارت في معظمها أفلاماً سينمائية، ومنها الكثير ما يجري على ألسنة الحيوانات، والأسد فيها ملك أيضاً، ثم ترجم الأوروبيون النفائس التراثية الأفريقية المتشابكة مع حياة القبائل قرب الحيوانات وفي محيطها، وكذلك نقلوا ترجمات لـ"كلية ودمنة" عن العربية، وللتراث الهندي الذي تدخل الحيوانات كرموز فيه بشكل شبه كامل، وبعد رواجها كطريقة تمنح التسلية للقراء السطحيين والحكمة والمعرفة للباحثين بين السطور قام الكاتب الفرنسي لافونتين باتباع هذه الوسيلة للتعبير عن مواقفه السياسية والثقافية والأخلاقية في زمنه من خلال ألسنة الحيوانات.
عوالم الحيوانات والمجتمعات البشرية
انتقلت عوالم الحيوانات المسقطة على المجتمعات البشرية إلى القارة الجديدة مع الأوروبيين وتحولت إلى أفلام سينمائية ما زالت تنتج وتجدد قصصها ويتم تطويرها مع تطور آليات العرض، بدءاً من طرزان الكائن الأسطوري الأقرب إلى الحيوانات الذين ترعرع بينها، وصولاً إلى فيلم "الأسد الملك" THE LION KING الذي باتت شخصياته الكرتونية الشهيرة في نسخته الأخيرة قريبة جداً من الواقع نتيجة التطور الهائل في صناعة الصورة الإلكترونية.
أما في تراث الإمبراطوريات القديمة، فقد كان الملك الجبار في بلاد ما بين النهرين يصور حاملاً أسداً بين يديه يلاعبه أو مصطاداً أسداً يضعه فوق كتفيه. ولطالما تم تصوير الملك الآشوري الأسطوري جلجامش حاملاً أسداً بين يديه وكأنه قطة كبيرة، وهو كان يحمل لقب سيد الحيوانات إضافة إلى ألقاب أخرى، وعلى رغم أسطورية الملحمة التي تتناول بحثه عن الحياة الأبدية إلا أن معظم المؤرخين يتفقون أن جلجامش كان ملكاً تاريخياً لدولة الوركاء السومرية خلال عصر فجر السلالات (2900-2350 ق م).
وتعد ملحمة جلجامش أحد مصادر الإلياذة والأوديسة، وباتت معروفة في أنحاء العالم بعد ترجمتها إلى معظم اللغات، وتعد من أهم عيون التراث العالمي.