هل «يتدمشق» الجولاني؟

منذ 5 أيام 22

«الشام غلَّابة» يقول السوريون. والشام هي أولاً وأخيراً دمشق، بطبقاتها الحضارية المتراكمة، الآرامية والإغريقية والرومانية والبيزنطية والأموية والعثمانية والفرنسية وما بعد. هي الحاضرة الفريدة بقدرتها على التكيف والتطور عبر آلاف السنين، ونقطة التقاء الحضارات والثقافات والأديان، وخطوط التجارة بين القارات. صنعت من مرونتها الثقافية إرثاً مدينياً فريداً ومستداماً، يختصر مكانتها المحورية، سواء كمركز للمسيحية المبكرة أو لاحقاً كمدينة رئيسية في التاريخ الإسلامي. حين اختارها الأمويون عاصمة لإمبراطوريتهم المترامية الأطراف، وجدوا فيها مختبراً لا يتكرر للبراغماتية الأموية التي أسسها معاوية بن أبي سفيان عبر إدارة التوازن بين الهيمنة السياسية واحترام التعددية الثقافية والدينية.

هي، بهذا المعنى، مدينة غيرت ناسها والوافدين إليها أكثر مما غيروها، بروحها العميقة القادرة على احتضان التنوع واستيعاب التناقضات. يصلها الوافد وسرعان ما «يتدمشق»، مكتسباً صفات المدنية نفسها وناسها وأسواقها وبيوتها، التي تميزها المرونة الاجتماعية وسيادة منطق الربح المشترك البعيد عن أي تعصب ديني أو عرقي. يعرف ذلك، من تسنى له الاستمتاع بالأذان الدمشقي، بلحن مقامَي البيَّاتي والسيكا، اللَذين ينضحان بساطةً وحنواً وتطريباً يرطب الروح. تعكس مآذن دمشق، العلاقة المتناغمة بين الدين والمدنية في تاريخ المدينة، حيث يحضر الدين كجزءٍ طبيعيٍ من النسيج الحضري من دون أي تطاول عليه. ببساطته وسرعته النسبية، يبرز الأذان وعياً مدنياً يحترم وقت الناس وحركتهم اليومية، ليكون نداءً روحانياً ينسجم مع الإيقاع العام لدمشق الحاضنة للتنوع الاجتماعي والثقافي العريق.

وأكاد أجزم أن فائض العنف الذي مارسه النظام الأسدي على سوريا يعكس، بشكل مباشر، استعصاء المدنية نفسها وصعوبة إخضاعها بما يتناقض مع طبيعتها، إلا عبر مستويات خرافية من القمع والتوحش.

إلى هذه المدينة التي لفظت الإرث الأسدي وطوت صفحته كأنه لم يكن، يدخل أحمد الشرع، المكنى بأبي محمد الجولاني، زعيم «هيئة تحرير الشام». يدرك الرجل، على ما يبدو، أن إرثه كقائد لجماعة متشددة يجعله غريباً عن روح دمشق. صحيح أن المدينة، طوال عصرها الحديث، حُكمت من غير أبنائها، باستثناء تجربة الدمشقي شكري القوتلي، إلا أنها، باعتبارها أمينة لإرثها الطويل من التسامح والتعددية، لن تقبل خطاباً يقوم على الإقصاء بعد إسقاط الأسد، أو خطاباً مراوغاً ينتحل البراغماتية والمدنية.

يعول البعض على أنه، منذ بداياته، برز الجولاني لاعباً بارعاً في التكيف مع التغيرات السياسية والعسكرية، انطلاقاً من التحاقه بالتنظيمات المتشددة في العراق ضمن صفوف تنظيم «القاعدة» وبتشجيع من نظام الأسد نفسه، مروراً بـ«داعش» وتأسيس «جبهة النصرة» في سوريا، وصولاً إلى تحولها إلى «هيئة تحرير الشام». بيد أنه لا دليل على ما إن كان هذا التاريخ من النقلات، يعكس تغييرات تكتيكية أم تحولات آيديولوجية راسخة.

ثم إن الجولاني ليس مجرد شخصية تسعى لإعادة تقديم نفسها بصورة جديدة، بل يمثل تياراً تمتد جذوره في الفكر السلفي، وينظر إلى الدين كإطار شامل للحكم والسياسة. في هذا السياق، فإن الخشية قائمة من أن تكون دعواته الراهنة مجرد مناورة سياسية أكثر منها قناعة حقيقية، يؤمل لها أن تفضي إلى «تدمشق» حقيقي، بمعنى، الانتساب إلى نسيج دمشق الثقافي والاجتماعي والسياسي، الذي فشلت 54 سنة من التغول البعثي في تمزيقه. لا شك في أن إرث البراغماتية الأموية والتسامح الشامي يمثلان عاملين قويين في تشكيل هوية دمشق وإدارة شؤونها عبر التاريخ، لكن الاعتماد عليهما وحدهما في «ترويض» شخصية مثل أبو محمد الجولاني قد لا يكون كافياً.

فالتحولات المنتظرة من الجولاني تواجه تحديات معقدة تهدد استقرار المدينة نفسها. ولئن كان تخلي الجولاني عن الإرث الإسلاموي المتشدد يتطلب تغييرات جوهرية في عقيدته وخطابه، فإن في ذلك ما قد يؤدي إلى انشقاقات داخل تنظيمه وفقدان القاعدة الشعبية التي تعتمد على مشروعه الآيديولوجي المتشدد، إلى جانب احتمال ظهور فصائل أكثر تطرفاً تنافسه وتزايد عليه.

في الوقت ذاته، سيواجه الجولاني، ما لم يتغير بصدق، صعوبة في كسب ثقة مكونات المجتمع السوري، خصوصاً الأقليات والنخب الدمشقية، التي ترى في إرثه المتشدد تهديداً لهوية المدينة القائمة على التسامح والتعددية.

يبرز، في ضوء هذا السياق، البيان الختامي لاجتماع لجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن سوريا بوصفه خريطة طريق محورية لبناء مستقبل سوريا ما بعد سقوط الأسد، من خلال عملية انتقال سياسي شامل ومستدام تحت إشراف الأمم المتحدة وفق القرار 2254. يُبرز هذا الموقف العربي بشكل رئيسي الأهمية الاستراتيجية لشمولية العملية بمشاركة كل مكونات الشعب السوري منعاً للاستئثار أو وصاية مكون على بقية المكونات. وإذ يُعزز البيان الأسس الدولية للانتقال السياسي، من خلال تشكيل هيئة حكم انتقالية، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، الأمر الذي يفتح باباً سياسياً ودولياً «للتدمشق» السياسي، أي الخضوع للشرط التعددي وإرث التسامح لأقدم مدينة مأهولة في التاريخ.