هل من فرصة في قلب مأساة إسرائيل وغزة؟

منذ 1 سنة 146

تعرّضت إسرائيل لهجوم صدم العالم، إلى درجة أن البعض شبهه بـ11 سبتمبر (أيلول) جديد. القيادي في «حماس»، صلاح العاروري، نأى بالحركة عن بعض تفاصيله، حين صرح لقناة «الجزيرة» بأن استهداف مدنيين لم يكن ضمن خطة «حماس». بنص كلامه: «نحن لا نقول إنه لم يُقتل مدنيون، لكن 100 في المائة لم يكن من خطة (القسام) المسّ بالمدنيين أو قتلهم».

ثم تعرضت غزة لقصف إسرائيلي عنيف، دفع ثمنه أيضاً مدنيون فلسطينيون؛ أعداد متزايدة من الضحايا، والبقية يعيشون مأساة إنسانية جديدة، تتقطع بهم السبل وهم يحاولون الفرار من «الحرب» التي أعلنتها إسرائيل.

في قلب المأساة المتكررة، هل من أمل أن نخرج بفعل إيجابي يخلد ذكرى هؤلاء الضحايا؟ أعتقد ذلك. المآسي على قسوتها فرصة جيدة للتفكر في الثمن الذي ندفعه بالصراع. لكن العائق الأكبر أمام هذا الأمل أن الصراع لا يمنح الإنسان فرصة للتفكير العقلاني، بل يشبه الدوامة التي تسحب كل مَن يقترب منها إلى دوائر حلزونية تضيق وتضيق، فلا تتلاشى إلا وقد وصلت إلى القاع. نظرة سريعة إلى «السوشيال ميديا» في المنطقة والعالم، وسنرى أن الجمهور منخرط في مزيد من الاستقطاب. فريق يصرّ على أن ما حدث يثبت أن «حماس» لا تختلف عن «القاعدة» و«داعش»، وفريق يصر على أنه دليل على ما حذروا منه من قبل؛ أن الإجراءات الإسرائيلية نحو غزة لن تؤدي إلا إلى مزيد من الانفجار.

أما وقد أدركنا هذا العائق، فلنتجنَّبه. وأبدأ بنفسي. من وجهة نظري، هذه المأساة تثبت مجموعة من النقاط:

أولاً: تستطيع إسرائيل فرض إرادتها السياسية، لكنها لا تستطيع فرض الاستقرار والأمن المطلق.

ثانياً: «حماس» لا تصلح ممثلة وحيدة عن شعب غزة؛ هي بالتأكيد جزء من مكوناته، لكن ما دام قرارها يتحمل الجميع مسؤوليته، فلا بد أن يشارك آخرون فيه.

ثالثاً: التحريك السياسي الشامل لا بد منه، ولا بديل عنه.

كيف نوفق بين ذلك كله؟ كيف نجعل هدفنا هذه المرة لا يقتصر على تهدئة هذه الجولة، إنما خطة متوازنة لحل قادر على الصمود. أعتقد أن التجارب الناجحة في هذا الإطار تجمع بينها سمتان رئيسيان.

الأولى أن إجراءاتها ارتكزت على إصلاح للتركيبة الداخلية يقود إلى إصلاح للتمثيل الخارجي. بمعنى وجود طرفين قادرين على الحوار، ويتمتعان بثقة شعبيهما.

في هذا السياق، فإن الانتخابات في إسرائيل تأتي على مدار سنوات بأغلبية هزيلة لحكومة لا تتفق على أساسيات عملية السلام؛ فلا تضعها في أولوياتها. فرص السلام بين إسرائيل ودول عربية كبرى ربما تساهم في تغيير هذه الأولويات. والمأساة يمكن أن تغير الاعتقاد بأن الوضع استقر دون حاجة إلى سلام.

على الطرف المقابل، آخر انتخابات فلسطينية كانت قبل 17 عاماً. تغيرت أمور كثيرة منذ ذلك التاريخ، لكن لم تتغير الوجوه التي تقود الفلسطينيين. هذه مشكلة كبرى حين تكون الحركة التي تقود السلطة في غزة هي نفسها الحركة التي تحمل السلاح. أو تكون السلطة تحت قيادة جيل 1964.

السمت الثاني في التجارب الناجحة أن إجراءاتها اعتمدت التوازي بين السياسة والسلاح، على غرار ما تم في عملية السلام بآيرلندا الشمالية؛ خريطة طريق تشمل دائماً تمدداً للخطوات السياسية مقابل تراجع ملزم للسلاح.

لكن كيف نلزم الطرفين بهذا وقد جُرِّبت كل الطرق؟

ربما يكون هذا السبب الذي يخرج الأمل من قلب المآسي أحياناً. وجود هذه المأساة الأخيرة في «الباكجراوند» يبرز بشكل أكبر الفرصة المتاحة لسلام مرتبط بمشاريع اقتصادية كبرى، لإسرائيل ولجيرانها. وبفوائد سياسية واقتصادية تتخطى حدود المنطقة إلى المساهمة بشكل أكبر في استقرار عالمي.

أما بالنسبة لـ«حماس»، فأنا أتفهم تماماً الحرج من انتقادها علناً وسط المأساة الملمّة بالشعب الفلسطيني. لكن خلف الأبواب المغلقة، حان الوقت لكي تفهم «حماس» أن وضع الفلسطينيين صار أسوأ مما كان عليه حين تولوا مسؤولية القطاع، وأن معادلة الانفراد بالقرار مع طلب المشاركة في تحمل العواقب لا يمكن أن تستمر، وأن رفض المسار السياسي يضيق خيارات الفلسطينيين، مثله مثل الإجراءات الإسرائيلية المتعنّتة، ويقدم إسرائيل للعالم في صورة الباحث عن شريك للسلام ولكن دون جدوى. كما يجب أن تفهم الحركة أن ارتباطاتها الإقليمية حملت القضية الفلسطينية تركة انحيازاتها، وأدخلتها طرفاً في نزاعات مع جيرانها الأقربين. لا يصب هذا في صالح الفلسطينيين أبداً.

ليست هذه عملية قصيرة النفس، ولا يمكن أن تؤتي ثمارها سريعاً. لكن يمكنها أن تبدأ سريعاً، وأن توازيها خطوات ثقافية، فيها تعهد بالالتزام بأعراف قانونية وأخلاقية معاصرة في الحديث عن الآخر، بلا تحريض ولا شيطنة.

على ما يبدو من بساطة هذا الإجراء الأخير فهو الأصعب في التنفيذ والأعمق في الأثر.

أصعب لأن الثقافة تعبير عن خليط كبير من المعتقدات والأفكار والأخلاق وفلسفة الحياة والنظرة إلى العالم. والبعد الديني الحاضر في الصراع يجمد الوضع الراهن ويحصنه، ويعطي المبرر للمتشددين لكي يزيدوا الأمر سوءاً، لا سيما إن كانوا لا يدفعون لذلك ثمناً. أسوأ التعصب ما كان مجانياً، يذهب فيه الشخص إلى أبعد مكان دون حتى أن يدفع تذكرة الطريق، ولا يتجشم عناءه.

وأعمق أثراً، لأنه لا يقتصر على عملية اتخاذ قرار في نقطة، بل يغير اتجاه الحركة ووجهة الوصول.