ملخص
جاءت الثورة الصناعية في منتصف القرن التاسع عشر فباتت وجبة الإفطار هي الأهم بالنسبة إلى العمال في المصانع الضخمة كي يتمكنوا من تحمل عناء العمل الطويل حتى تحين الوجبة الثانية.
ندرة البقايا البشرية المحفوظة جيداً من عصور الإنسان الأول بل وندرتها من عصور قريبة كالعصور الحجرية، جعلت النظام الغذائي لمجتمعات ما قبل حقبة الاستقرار والزراعة أمراً غامضاً على باحثي العلوم التي تتناول العادات الغذائية للبشر الأوائل، وقد تجيب الاكتشافات الجديدة عن بعض الأسئلة ولكن ربما تثير شكوكاً جديدة حول معارف كانت ثابتة، مثل أيهما تناول البشر أولاً اللحوم أم الخضراوات؟ وما زالت الأبحاث حول شكل الأسنان والجهاز الهضمي والمعلومات المستقاة من الأحافير تبدل مرة بعد مرة هذه المعلومات.
وهناك علوم كثيرة تتناول عادات البشر الغذائية، فتطوير المعرفة العلمية بغذاء البشر الأوائل أضاء جوانب مهمة من حياتهم وعلاقاتهم ونمط عيشهم والثقافة المرتبطة بالطعام وطقوس تناوله والممنوع منه والمسموح، وكذلك مدى الاعتماد على اللحوم مقابل الخضراوات والنباتات وتحديد أزمان الاستقرار للبشر الرحل. ويمكن للنظام الغذائي أن يحدد مدى استقرار أصحابه ونوع الأرض والمياه المتوافرة في المكان، وهل هو قريب من البحر أو بعيد منه. وهنا لا نتحدث عن الجانب الثقافي والعادات والتقاليد المتوارثة المتعلقة بالمائدة وأصناف الطعام وكيفية ترتيبها وتوزيعها وتنظيم تناول الطعام والعلاقات الاجتماعية المتعلقة بالمائدة والحضور حولها، والعلاقة بين الذكر والأنثى في هذا المجال وغير ذلك من فروع يمكن للغذاء أن يرشدنا إليها. وهو ما يفتح المجال لمعرفة متى كان يأكل البشر وعدد وجباتهم في اليوم الواحد وكيف كانوا يتصرفون في حال الوفرة الغذائية أو في حال الندرة، وما الذي جعل الوجبات الغذائية ثلاثاً كما هي الحال منذ قرون عدة.
ويمكن للعلوم المتعلقة بغذاء البشر أن تتفرع وتتشعب إلى مئات الفروع والمعارف، خصوصاً أن الغذاء هو مصدر الطاقة الأول للبشر وما يمنحهم القدرة على الحركة ويبقيهم على قيد الحياة، وكثيراً ما كانت مصادر الطاقة سواء من الغذاء أو الماء أو النفط أو الكهرباء أو الطاقة النووية سبباً لمعاهدات السلام أو سبباً للحروب والمواجهات للسيطرة على هذا المصدر.
مغارات المغرب والأطباق النباتية
قام علماء في المملكة المغربية حديثاً بإعادة هيكلة الممارسات الغذائية لإحدى جماعات شمال أفريقيا ووثقوا نظاماً غذائياً يعتمد بصورة كبيرة على النباتات. وفحص الباحثون رفات سبعة أشخاص يعود تاريخها إلى نحو 15 ألف عام عثر عليها داخل كهف قريب من قرية "تافورالت" في شمال شرقي المغرب. وعثر في هذا الموقع على بقايا نباتات برية مختلفة صالحة للأكل منها الجوز الحلو والصنوبر والفستق والشوفان والبقوليات، وبقايا عظام من الحيوانات الرئيسة التي كانوا يصطادونها وهي أنواع من الأغنام البرية، بحسب بحث نشر أخيراً في دورية "نيتشر" للبيئة والتطور، وأثبت أن المعتقد السائد بأن النظام الغذائي للصيادين كان يتكون بالتحديد من البروتينات الحيوانية لم يكن صحيحاً تماماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن ما يتفق عليه العلماء والباحثون أن البشر الأوائل كانوا يأكلون حين يشعرون بالجوع وليس في وجبات موزعة على أوقات النهار كما نفعل نحن اليوم، بعدما أرست معظم المجتمعات الإنسانية ثلاث وجبات في اليوم الواحد تشتمل على الفطور صباحاً وطعام الغداء في منتصف النهار والعشاء في بداية الليل، وهناك بعض المجتمعات تضيف مواعيد أخرى لتناول وجبات "سناك" سريعة مع الشاي كما لدى الشعب الإنجليزي بعد الظهر، أو السلطات مع النبيذ الفرنسي بعد ظهر الفرنسيين أو طعام المازة اللبنانية والمتوسطية التي يمكن تحضيرها في أوقات مختلفة من النهار وتؤكل باردة وعلى مهل. ثم دخل الـ"ساندويتش" في لائحة الطعام السريع الذي يؤكل على عجل أو أثناء القيام بعمل ما، وتحولت المطاعم التي تقدم الطعام السريع أو المجهز سلفاً إلى القاعدة العامة في تناول الطعام خصوصاً في المجتمعات الصناعية أو ذات الكثافة السكانية العالية، وعلى رغم ذلك بقيت الوجبات الرئيسة الثلاث ثابتة في معظم المجتمعات الإنسانية.
الوجبات الثلاث بمرور الزمن
التوصل إلى حصر الوجبات اليومية في ثلاث لم يحصل بصورة مفاجئة أو بقرار بل كان نتيجة لتطورات كثيرة حصلت في المجتمعات البشرية المستقرة، ابتدأ مع الاستقرار في مستعمرات قريبة من مصادر المياه ثم تكرس مع رسو نمط من علاقات العمل داخل هذه المجتمعات اضطر العاملون، سواء من المزارعين أو الحرفيين أو التجار، إلى منح تناول الطعام وقتاً لا يتضارب مع أوقات العمل، وكانت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر المؤذن بتكريس هذه الأوقات اليومية لتناول وجبات الطعام خصوصاً بالنسبة إلى العمال من الطبقات الدنيا.
ويعتقد كثير من علماء الوراثة والغذاء أن هناك تناقضاً بين ما نأكله اليوم وما كان أسلافنا يأكلونه، ويقول عالم الأنثروبولوجيا القديمة بيتر أونغار إن البشر المعاصرين تطوروا لتناول طعام الصيادين وجامعي الثمار خلال العصر الحجري القديم، وهي الفترة الممتدة من نحو 2.6 مليون عام إلى بداية الثورة الزراعية قبل ما يقارب الـ10 آلاف عام. وبعد دراسة النظم الغذائية للصيادين تبين أن هذه المجتمعات كانت تستمد أكثر من نصف السعرات الحرارية من اللحوم الخالية من الدهون والأسماك، ولكن ليس من منتجات الألبان أو الفاصوليا أو الحبوب التي أدخلت في نظامنا الغذائي بعد اختراع الطبخ والزراعة. ويقدم علماء كثر وأطباء في التغذية النصائح بتناول الأطعمة التي تناولها أسلافنا من الصيادين وجامعي الثمار على أن نتناول وجبة الطعام عند الجوع وليس في أوقات معينة، وبرأيهم أن ذلك سيمكننا من تجنب أمراض الحضارة مثل القلب وارتفاع ضغط الدم والسكري والسرطان.
ويصف عالم الأنثروبولوجيا البيولوجية كلارك سبنسر لارسن فجر الزراعة عندما أصبحت الوجبات الغذائية أقل تنوعاً من وجبات الصيادين وجامعي الثمار، فيقول إن تناول نفس الحبوب المستأنسة يومياً أصاب المزارعين الأوائل بتسوس الأسنان وأمراض اللثة، وعانى المزارعون من نقص الحديد وتأخر النمو وتقلصت مكانتهم الاجتماعية بالنسبة إلى الشعوب الصيادة والبدو الرحل.
ويضيف علماء الوراثة أن أشكال وجوهنا تطورت منذ العصر الحجري القديم وأصبحت أسناننا وفكوكنا أصغر، وتغير حمضنا النووي منذ بدء الاعتماد على المحاصيل الفصلية والنشاء والوجبات المرتكزة على النبات. ويحاول عدد من علماء الوراثة حول العالم إثبات أن شكل وجوهنا لا يزال يتطور حتى اليوم نتيجة التغيير الذي طرأ على وجباتنا ونوع غذائنا وتوقيت تناوله وانتظامه.
الطهي لتوفير الطاقة وتسهيل الهضم
ويقول عالم الرئيسيات بجامعة "هارفرد" ريتشارد رانغام إن الثورة الرئيسة في النظام الغذائي البشري لم تكن في تناول اللحوم وإنما في استخدام النار في طهي الطعام. ويضيف رانغام أن أسلافنا البشريين الذين بدأوا الطهي في وقت ما بين 1.8 مليون و400 ألف عام عرفوا أن أمعاءنا تحتاج إلى طاقة أقل في هضم الطعام المطهو مما لو كان الطعام نيئاً، مما يعني مزيداً من الوقود لأدمغتنا.
"هل كان الإفطار والغداء والعشاء وجباتنا دائماً؟" عنوان تحقيق كتبه دينيس وينترمان لمجلة "بي بي سي نيوز"، وجاء فيه أن الإفطار كما نعرفه لم يكن موجوداً على مدار التاريخ. فلم يعرف الرومان وجبة الإفطار وكانوا يأكلون وجبة واحدة عند الظهر. وكان تناول أكثر من وجبة صورة من صور الشراهة وهو عكس ما كان يعتقده المستوطنون الأميركيون الأوائل تجاه نمط تناول وجبات الطعام لدى السكان الأصليين في القارة الأميركية.
ويقال إنه في القرن الـ17 بدأت جميع الطبقات الاجتماعية بتناول وجبة الإفطار التي تضم القهوة والشاي والأطباق مثل البيض واللحم المقدد والخبز، وأواخر القرن السابع عشر بدأت غرف الإفطار في الظهور في منازل الأغنياء الأوروبيين. ثم جاءت الثورة الصناعية في منتصف القرن التاسع عشر فباتت وجبة الإفطار هي الأهم بالنسبة إلى العمال في المصانع الضخمة كي يتمكنوا من تحمل عناء العمل الطويل حتى تحين الوجبة الثانية. لكن مع تطور المصانع وساعات العمل صارت الوجبات أكثر تحديداً في نوعها وتوقيتها بين وجبة الإفطار ثم الغداء في منتصف النهار، أما وجبة العشاء فكانت بمتناول الأيسر حالاً، وهؤلاء لم يكونوا الأكثرية في المجتمعات الصناعية الأوروبية في القرنين الماضيين.
في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين روجت الحكومات لوجبة الإفطار باعتبارها أهم وجبة في اليوم. ثم تطورت وجبات الإفطار المحضرة سلفاً في الأسواق الغذائية وانتشرت انتشاراً سريعاً خصوصاً منها رقائق الذرة المشوية والمقلية والمخلوطة بالفاكهة والسكريات.
أما وجبة الغداء فقد تطورت مع تطور الزراعة والعمل في الأرض، إذ بات المزارعون في حاجة إلى وجبة ثانية في منتصف النهار بعد الوجبة الأولى التي تكون عند الفجر، وكان ضوء الشمس يحدد موعد الوجبات بغياب الكهرباء. وفي ذلك الوقت وقبله وبعده حتى موعد إنارة الطرق العامة في المدن الكبرى، كان الناس يستيقظون في وقت باكر مع شروق الشمس ويذهبون إلى الفراش بعد غياب الشمس بقليل، وكانت بداية ونهاية النهار مختلفة عن نهاراتنا في الزمن الحالي.
وكانت الثورة الصناعية هي التي ساعدت في تشكيل الغداء كما نعرفه اليوم، فتم تحديد أنماط الأكل من الطبقة الوسطى والدنيا من خلال ساعات العمل. وكان كثر يعملون لساعات طويلة في المصانع فباتت وجبة وقت الظهيرة ضرورية، وبيعت الفطائر في الأكشاك خارج المصانع وبدأ الناس أيضاً في الاعتماد على الأغذية المنتجة مسبقاً بكميات كبيرة وما زالوا حتى اليوم، فأسهمت مطاعم الأكل السريع بإعادة برمجة ساعات الأكل التي صارت ممكنة في أي وقت من أوقات النهار، وليس بالضرورة صباحاً وظهراً ومساء.