هل حلّت مرحلة «ما بعد الاستعمار الجديد»؟

منذ 1 سنة 142

بدا الاستعمار «القديم» في عالمنا الحالي (باستثناء الحرمان المستمر للشعب العربي في فلسطين من فرصة تأسيس دولته) وكذلك الاستعمار الجديد، الذي حافظ على نظام الهيمنة الاقتصادية واستغلال الغرب المتقدم للدول الفتية في آسيا وأفريقيا، بما في ذلك التي حصلت على استقلالها مؤخراً، كأنهما قد باتا شيئاً من الماضي. فلقد لعبت مساعدة الاتحاد السوفياتي، سلف روسيا الحديثة، دوراً رئيسياً في تحرير هذه الدول من التبعية الاستعمارية، ودعم سيادتها وتنميتها. بينما وللأسف، ينسى بعض قادتها هذا الأمر أحياناً، على الرغم من أن موسكو، بشكل عام، لا تطلب منهم أي شيء في المقابل.

ومع ذلك، في الآونة الأخيرة، بدأ كثير من زملائي من دول «الجنوب العالمي»، الحديثَ عن مرحلة «ما بعد الاستعمار الجديد»، مما أثار دهشة ساذجة لدى بعض المحللين، ذلك أنه وفقاً لمسار هذه المرحلة باتت الدول الغربية المتقدمة، بما في ذلك الاستعمارية منها، تفرض مرة أخرى إملاءاتها وهيمنتها، دون ازدراء لما بدا كأنه شكل من أشكال عفا عليها الزمن من الهيمنة المباشرة وغير المباشرة (وإن كانت مقنّعة بشكل رائع في بعض الأحيان).

من الواضح أنه لا بديل عن هذه العملية، إذ إن دول «الجنوب العالمي»، رغم كل الخلافات بينها، اجتمعت حول هذا الهدف. بيد أنه من الصعب للغاية التخلي عن الأوهام، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالسياسة، التي أطلق عليها المستشار الألماني أوتو فون بسمارك على نحو مناسب وصف «فن الممكن». ومع ذلك، أُفضّلُ مقولة الاقتصادي الأميركي الشهير جون كينيث غالبريث، الذي أشار إلى أن «السياسة هي الاختيار بين الكارثي وغير السار». وبات من الواضح اليوم، أنه يتعين على الغرب الجماعي، الذي يفقد بشكل ملحوظ مكانته كقوة مهيمنة على العالم، أن يتخذ مثل هذا القرار على وجه التحديد.

وأود هنا أن أستذكر في هذا السياق الأحداث التي وقعت قبل أكثر من خمسين عاماً. ففي نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، عَرضَ عليّ ممثلو الهيئة السياسية السوفياتية الرئيسة للحزب آنذاك - أي اللجنة المركزية، قراءةَ محاضرات باللغة العربية أمام مجموعة من كبار قادة الجبهة الوطنية لجنوب اليمن، وهي المنظمة التي قادت كفاحاً مسلحاً لشعب البلاد ضد الاستعمار البريطاني لعدة سنوات تكلل بالنجاح. فلقد جاء هؤلاء القادة حينها إلى موسكو للتعرف على أساسيات النظرية الثورية في معهد العلوم الاجتماعية، الذي كان يسمى بشكل غير رسمي «مدرسة لينين الدولية».

الأجواء في المعهد ككل، خصوصاً في قسم الفلسفة الذي كنت مرتبطاً به، كانت ديمقراطيةً ومنفتحةً على تبادل الآراء بشكل غير متوقع. كان يترأس هذا القسم عالم معروف وشخص رائع، البروفسور يوري زاموشكين. أراد عميد معهد العلوم الاجتماعية، فيودور ريجينكو، المعروف كرجل ذي عقلية غير تقليدية، أن يجمع تحت جناحه أبرز ممثلي العلوم الاجتماعية السوفياتية، ولقد نجح جزئياً في ذلك.

تم الجمع بين دروس إنهاء الاستعمار والتدريب النظري العميق، بما في ذلك دراسة الاتجاهات الحديثة في الفكر الاجتماعي بالبلدان الغربية المتقدمة إلى جانب الماركسية. أمر مثير للدهشة لكنه فعلاً كان كذلك. ومن المثير للدهشة أيضاً أن المناقشات الساخنة التي دارت بيني وبين زملائي أثناء تناول فنجان من القهوة أو الشاي في الكافتيريا، سمحت بدرجة عالية إلى حد ما من التفكير الحر وشجعت الأفكار الجديدة. وفي الوقت نفسه، كان الأعضاء العاملون السوفيات في الحزب، الذين يمثلون الفكر الماركسي الأرثوذكسي أو الصارم والموجه نحو الممارسة العملية، يلقون المحاضرات أمام المستمعين من الأحزاب الشيوعية الأجنبية. وكان من بين الشيوعيين الفلسطينيين الذين تلقوا التدريب في المعهد عام 1970 - 1971، الشاعر المعروف على نطاق واسع في الوطن العربي، محمود درويش، الذي أسعدني كثيراً وزملائي العرب التواصل معه.

ممثلو الحركات الثورية غير الشيوعية الأجنبية درسوا بشكل منفصل في فرع المعهد بالقرب من موسكو بمدينة بوشكينو. كان هناك ممثلون عن مختلف الجبهات الثورية، بما فيها الجبهات الراديكالية للغاية - من فلسطين وجنوب أفريقيا وأنغولا وعدد من الدول الأفريقية الأخرى، بما في ذلك أولئك الذين ما زالوا يقودون صراعاً مسلحاً ضد المستعمرين والعنصريين والأنظمة الرجعية. تم تدريس أساسيات الكفاح الثوري، أو ما يسمى المقاومة الشعبية في ظروف سرية من قبل محترفين مؤهلين تأهيلاً عالياً في مجالهم.

أصداء المناقشات التي أجريناها آنذاك، على الرغم من أن نصف قرن يفصلنا عن ذلك الوقت، لا تزال تُسمع حتى يومنا هذا. علاوة على ذلك، حتى في ذلك الوقت، كنت أنا وكثير من رفاقي نميل نحو إجراء تقييم نقدي للأفكار والممارسات التي توعظ بها موسكو، أو كانت للأسف تفرضها في بعض الحالات. ومن بين القضايا التي ناقشناها بمشاركة المستمعين الأجانب الموقف من الثورات، ومكانتها في تحول المجتمعات الشرقية، ودور الأساليب النضالية من أجل التحرر الوطني، ومكانة الدين في دول آسيا وأفريقيا، بما في ذلك بالمشرق العربي، وإلخ. من المحتمل أن عدم حل هذه القضايا وكثير من المشاكل الأخرى، خصوصاً التخلف الاجتماعي والاقتصادي والفقر، التي ورثها القادة الجدد لـ«الجنوب العالمي» لاحقاً، ومواجهتهم ضغوطاً خارجية قوية ومقاومة التجار والسماسرة لهم من المرتبطين بشكل وثيق بمصالح القوى المستعمرة، منعتهم من تحقيق النجاح في تحويل المصالح الوطنية والتنمية والقيم التقليدية إلى أولويات الدول المستقلة حديثاً. ومن وجهة نظر اليوم، يمكننا أن نرى سذاجة كثير من محاورينا، والافتتان بالعبارات اليسارية الصاخبة تحت شعار التحديث، والاستهانة بإمكانات الدين، والافتقار إلى الواقعية السياسية والبراغماتية الأولية، وغيرها من عيوب آيديولوجية أنصار التجديد. ولم يكن من المستغرب أنه في غضون سنوات قليلة فقدت ممارسات كثيرة وأفكار معتمدة من التجربة السوفياتية مصداقيتها نتيجة للأزمة التي واجهها الاتحاد السوفياتي نفسه وانهياره لاحقاً، وكذلك التغيرات العميقة التي جرت في الدول الاشتراكية السابقة.

ومع ذلك، فإننا لم نرث مرارة الفشل فحسب، بل ورثنا أيضاً ذاكرة دعم روسيا غير المشروط للنضال من أجل استقلال شعوب «الجنوب العالمي»، التي تشكل الأغلبية العالمية اليوم. وبطبيعة الحال، ليس كل شيء في دول آسيا وأفريقيا يسير بالسلاسة المرجوة. ففي بعض الأحيان، يبدو أن الزمن يعود إلى الوراء (المثال على ذلك الانقلابات العسكرية في عدد من الدول الأفريقية التي تعيد إحياء صفحات الماضي)، ولكن لنكن متفائلين. فقد أظهرت مناقشة نشطة لموضوع ما بعد الاستعمار الجديد من قبل المشاركين في المنتدى الاقتصادي الشرقي الذي عقد مؤخراً في فلاديفوستوك أن دول الأغلبية العالمية مستعدة لمقاومة قوى الشر بنجاح وبالوسائل السلمية.