تقول إسرائيل إن هدفها تأمين الحدود ليعود عشرات الآلاف ممن فروا تحت نيران حزب الله، عامَ أول، إلى ديارهم. ولكن المؤكد أن عملياتها الأخيرة - رغم نجاحها تكتيكيا – لم تحقق هدفها المعلن، بل إن تأمين الحدود أصبح أمرا بعيد المنال، إثر ما حل بجنوب لبنان من دمار لن يقف اللبنانيون إزاءه مكتوفي الأيدي.
فقد أكد الكاتب نداف إيال في صحيفة ”يديعوت أحرونوت“ الإسرائيلية: أن "ليس لدى أي أحد، داخل المؤسسة الدفاعية أو خارجها، أي فكرة عن كيفية ترجمة هذه الإنجازات العملياتية الرائعة إلى فائدة سياسية، إلى انتصار حقيقي يوقف الحرب في الشمال“. "ومادام حزب الله يحتفظ بأي قوة نارية، فلن تتمكن الحدود الشمالية من العودة إلى طبيعتها".
وكان حزب الله قد بدأ بإطلاق النار على إسرائيل بعد يوم واحد من هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، الذي أشعل فتيل الحرب في غزة. وكان الهدف المعلن من هجمات حزب الله: التضييق على القوات الإسرائيلية في الشمال لمساعدة الفلسطينيين، وأكد الحزب أنه سيوقف تلك الهجمات بمجرد وقف إطلاق النار في غزة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.
وقد بدا رد ”حزب الله“ على تصعيد الأسبوع الماضي هزيلا. فمئات الصواريخ والطائرات من دون طيار التي أطلقها على شمال إسرائيل، رغم أنها بلغت مدى لم تبلغه من قبل، واستهدفت تل آبيب مباشرة للمرة الأولى، إلا أنها لم تسفر عن أضرار تذكر.
ومع ذلك، فإن كثيرا من الخبراء يقولون إن حزب الله قادر على مواجهة الضربات الإسرائيلية ومن المرجح أنه لم يستخدم من أسلحته إلا النزر القليل، وأبقى على الأسلحة المتطورة تحسبا لأي طارئ، من باب الاحتياط.
الضربات الجوية والسيطرة على الأرض
كان يوم الاثنين 23 سبتمبر/ أيلول 2024 هو الأعنف من حيث تكثيف لغارات الجوية الإسرائيلية، ومن حيث الحصيلة الدموية التي لم يسبق لها مثيل منذ حرب تموز 2006، حيث أعلنت وزارة الصحة اللبنانية في ذلك اليوم وحده: مقتل 492 شخصا وإصابة 1645 آخرين، بينهم نساء وأطفال ومسعفون، جراء الغارات الإسرائيلية على الشرق والجنوب اللبناني، فضلا عن نزوح عشرات الآلاف من سكان الجنوب والشرق اللبناني.
ولكن، ماذا عن السيطرة على الأرض؟
نتذكر الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وحملة الناتو في ليبيا عام 2011، والحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014، وكل تلك الحروب بدأت بضربات جوية مكثفة تضيء السماء ولا تسيطر على الأرض. وفي كل واحدة من تلك الحالات المذكورة، استمرت الحرب أشهرا، بل سنوات، وكان الدور الحاسم من نصيب القوات البرية.
كما أن إسرائيل، في حربها المستمرة الآن على غزة قد مكثت قرابة ثلاثة أسابيع وهي تدك جميع أرجاء القطاع بغارات جوية مكثفة قبل الاجتياح البري الواسع النطاق. وها هو العام يكاد ينقضي دون أن تحقق إسرائيل أهدافها في غزة، فلا تزال حماس تقاتل بصمود، وتحتجز عشرات الرهائن. وما أمر حزب الله عن ذلك ببعيد.
بل إن الحزب أكثر تقدما من حماس، من الناحية العسكرية، كما أنه يتحرك في مساحة أرحب، وتتاح له خطوط إمداد واسعة تربطه بشكل مباشر بالخارج، فضلا عما لديه من شبكات أنفاق يُعتقد أنها أكثر اتساعا من تلك الموجودة في غزة.
ينضاف إلى ذلك أن إسرائيل، في هجماتها الحالية على لبنان، قد تبنت ـ حتى الآن ـ أهدافاً أضيق نطاقا، فلا هي تهدف إلى نزع سلاح حزب الله، أو حتى إلحاق الهزيمة به، بل التوصل إلى وضع جديد، يجعل الحزب يتراجع عن الحدود ويوقف الهجمات، وهيهات! فأنى لذلك أن يتحقق دون هجوم بري؟ والهجوم البري أمر مستبعد جدا، مع أن إسرائيل لا تسبعده، بدليل أنها أرسلت لى الحدود الشمالية آلافا من قواتها التي كانت تقاتل في غزة، تحسبا لفشل حملتها الجوية على الجنوب اللبناني.
والحق أن إسرائيل ليس لديها خطط فورية لغزو بري، بل إن الأمين لحزب الله في حديثه أمام الملأ أنه يتمنى أن تقدم إسرائيل على التدخل البري، لكي ترى ما لا يخطر لها على بال، مما يعني ـ لدى المراقبين ـ أن لدى حزب الله قدرات ليست بادية للعيان، رغم أن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قد تباهي مؤكدا أن ضربات يوم الاثنين وحدها قد قضت على عشرات الآلاف من الصواريخ والقذائف التي يملكها حزب الله، مضيفا أن "هذا هو الأسبوع الأصعب على حزب الله منذ تأسيسه"، حيث "تم توجيه ضربة لسلسلة القيادة، وللإرهابيين أنفسهم على مختلف المستويات، ولقدرتهم على الرماية ومعنوياتهم".
وقد اعترف حزب الله بتعرضه لضربات قاسية، ولكن حتى لو كان تقييم غالانت صحيحاً، فإن الخبراء يؤكدون أن الحزب لا يزال يمتلك موارد كبيرة وقدرات غير معروفة.
يقول قاسم قصير، العضو السابق في حزب الله ومؤلف كتاب حول الحزب: إن "وحدة الصواريخ لا تزال نشطة، ولقد امتص حزب الله الصدمة الأولى، والمعركة إنما بدأت للتو". "ولم يستخدم حزب الله سوى جزء صغير من قدراته".
ومن المعلوم أن حزب الله، الذي تأسس في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وجعل تدمير إسرائيل هدفه الأسمى، قد نجا من معارك لا تعد ولا تحصى مع القوات الإسرائيلية، وكان كلما سقط واحد من قادته الميدانيين خَلَفَه قائد آخر.
ويزعم حزب الله أن لديه نحو 100,000 مقاتل. وقبل الهجوم الأخير، كان يُعتقد أن لديه نحو 150 ألف صاروخ وقذيفة، بما في ذلك قذائف بعيدة المدى قادرة على ضرب أي مكان داخل إسرائيل، علاوة على بعض الصواريخ الموجهة بدقة.
ومن المرجح أن تكون أسلحته الأكثر تطورا محفوظة في الاحتياط، لأنه لا يخفي مساعيه إلى تجنب إشعال حرب شاملة، ما لم يضطر إليها اضطرارا.
وقال ساريت زيهافي، وهو محلل سابق في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ومؤسس مركز ألما للأبحاث والتعليم، الذي يركز أبحاثه على الحدود الشمالية لبلاده: إن حزب الله أخفى أسلحته في أجزاء مختلفة من لبنان، بما في ذلك في مناطق قريبة من بيروت حيث يتمتع بوجود قوي.
وأضافت قائلة: لقد ”كان حزب الله يبني فائضا، ولذلك فقد نشر ذخائره وبنيته التحتية في كل مكان، وهذا هو السبب في تعرض كثير من الأهداف للهجوم، لأن الحزب في كل مكان“.
والمؤكد أن حزب الله برز في حرب يوليو/تموز 2006 باعتباره قوة لا يستهان بها في المنطقة، ومنذ ذلك الحين وهو يعيد تسليح نفسه ويطور منظومته الهجومية والدفاعية، فهل تقضي عليه ضربات جوية ولو استمرت إلى حين؟