هل ثمة نظام دولي جديد؟

منذ 1 سنة 145

في منتدى الإعلام العربي الذي ينظم كل عام في مدينة دبي، تعقد الكثير من الندوات، كانت إحداها ما تحدثت فيه، وهي محاولة الإجابة عن سؤال: (هل ثمة نظام عالمي جديد في الأفق؟)، ولأن إيقاع اللقاء الحادي والعشرين لهذا النشاط المتميز (منتدى الإعلام العربي) سريع بالضرورة، وبسبب كم كبير من وجود الخبراء والمختصين، فإن السرعة وضيق الوقت لا يمهلان المتحدث عرض مجمل نقاط الحديث حول هل هناك (نظام عالمي جديد) يتشكل، أم أن ما نحن فيه هو الاستمرار في النظام الحالي. هذا المقال توسع في نقاط عشر وُضعت بمثابة خطوط عامة في الحديث عن تعدد القطبية أم بقائها أحادية ملخصاً بحقائق عشر: أولاً: نعم هناك خلل هيكلي في النظام الأميركي الممارس في السنوات الأخيرة لا يمكن تجاهله، وهناك أيضاً جهود لإصلاحه، فالحديث عن الاختلالات في ذلك النظام الأميركي كُتب عنها بتوسع، كما أن سياسات الولايات المتحدة ليست (امرأة القيصر) معصومة من الخطأ، فهناك أخطاء على المستوى العالمي لا يمكن تجاهلها، إلا أن بروز نظام عالمي يقارع تلك القوة هو من ضمن التمنيات! ثانياً: أسباب أن القوة الأميركية الاقتصادية والعسكرية و(القوة الناعمة) هي السائدة في العالم، ولن يكون هناك تعدد أقطاب، كما يشتهي البعض، في المدى المنظور على الأقل، ستظل الولايات المتحدة هي الأكثر تأثيراً في مسيرة العالم لا الصين بقادرة ولا روسيا أيضاً أن تشكلا قطباً منافساً، كما أن الحديث عن الاستغناء عن الدولار في المبادلات المالية العالمية حديث عاطفة وليس واقعاً، سوف يبقى الدولار للأمد المنظور العملة الدولية الأهم. ثالثاً: الحقائق هي أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة يشكل ربع الناتج المحلي العالمي ومنذ أكثر من 35 سنة ولا يزال، كما أن الشركات الأميركية تملك خُمس الماركات العالمية الأكبر في العالم والمسجلة في الخارج (أكثر مما تملكه الصين وألمانيا مجتمعتين)، كما أن أكبر 5 شركات عالمية للبحث والتطوير هي أميركية، تكفي الإشارة إلى أن أفضل لقاح فعال صُنع من إحدى تلك الشركات، كما تتمتع أميركا بالشفافية في القطاعين الخاص والعام (الاقتصادي والسياسي)، فهناك حريات نقد ومساءلة واعتراض في المجتمع السياسي الأميركي، أكبر عدد من الحاصلين على نوبل في العلوم والاقتصاد هم من البيئة العلمية الأميركية. رابعاً: في القوة الناعمة وزن الولايات المتحدة النسبي لا يقارن بأي قوة أخرى، لا يصدر مثل كتاب نعوم تشومسكي «من يحكم العالم»؟ الذي لم يترك واردة ولا شاردة ولا سلبية في مثالب النظام الأميركي إلا ذكرها، بل فضل بعض الفصائل المعروفة بأنها (إرهابية) وأعطاها شرف (المقاومة)، ومع ذلك فإن الكاتب لا يزال يحاضر في جامعته، ويذهب كل مساء إلى منزله لينام! في تقديري إن مثل هذا الكتاب لا يمكن أن يكتب من قبل كاتب صيني أو روسي في الشأن المحلي وهو في بلده، فأي مغامرة مشابهة في تلك الدولتين تورث صاحبها السجن أو الاختفاء! خامساً: الحرب في أوكرانيا أثبتت عدم قدرة أوروبا على الاعتماد على نفسها في حالة الأزمة الكبرى، ولولا مساندة نشيطة من الولايات المتحدة لكانت روسيا قد احتلت كل أوكرانيا، هذا لا يعني أن الولايات المتحدة لم تدخل في حروب في العقود الأخيرة، ولكن في مجملها كانت (حروب تحرير) وليست حروب (ضم وإلحاق). سادساً: الجانب الروسي - الصيني ليس موحداً، وحتى تجمع «البريكس» هو تجمع اقتصادي، وليس سياسياً، فهناك من بين الدول المنظمة له من هم حلفاء للولايات المتحدة، عدا الخلاف ما بين أعضائه كالخلاف بين الهند والصين. سابعاً: الخلاف بين الولايات المتحدة والصين ليس خلافاً آيديولوجياً، هو في حقيقته (انفجار للشراكة الاقتصادية) من جهة، وردود فعل ساخنة من جهة أخرى، وعلينا أن نتذكر أن الصين كما هي، ربما سياسياً أسوأ، عندما تحالفت الولايات المتحدة معها ضد عدو مشترك هو الاتحاد السوفياتي، وهناك اليوم شركات أميركية ضخمة تنتج في الصين، ورأسمال صيني ضخم يستثمر في الولايات المتحدة، كما أن سوق الولايات المتحدة وأوروبا هما أهم الأسواق للبضائع الصينية، والحديث عن (سوق صينية محلية) كما يسميها بعض المنظرين الصينيين (لتقليل المخاطر) هي ما زالت شعارات صعبة التحقق. ثامناً: الشعارات التي يرفعها الديمقراطيون الأميركيون في ما يسمونه (الاستثمار في الديمقراطية) بدأت النخب الأميركية تضع تساؤلات حولها، يكفي في هذا المقام الإشارة إلى عدد مجلة «الفورن أفيرز» المؤثرة، عدد مارس (آذار)/أبريل (نيسان) 2020، وقد خصص تحت عنوان شامل (الشرق الأوسط يتحرك) الملف في معظم أوراقه المنشورة يقترح مقاربة سياسية أميركية جديدة للشرق الأوسط (تتجاوز شعار الاستثمار في الديمقراطية)، وإن فرضها بآليات مستوردة هي كما قال التقرير (أقرب إلى تدمير للدولة بدلاً من بنائها). تاسعاً: الولايات المتحدة هي المصدر الأهم في التسليح العسكري ربما لكل دول الخليج ودول أخرى في الشرق الأوسط، وهي المكان المفضل للتدريب العسكري، كما أنها ما زالت أقوى دولة عسكرية في العالم، وهي المكان الأفضل للاستثمار العالمي بما فيه صناديق السيادة الخليجية. عاشراً: علينا أن نتذكر أن معظم البروباغندا ضد الولايات المتحدة في فضائنا العربي أنها (تساعد على بقاء الديكتاتورية)! فهل الخيار الآخر، سواء الصين أو روسيا هما (حماة الديمقراطية)! أليس هناك تناقض معرفي في المقاربة؟ الولايات المتحدة قادرة على إعادة الهيكلة حتى في داخلها، وإزاحة رئيس أو محاكمته وبالطبع تغييره من خلال صناديق الانتخاب، والتي لا تتوافر في الجانب الآخر! وأخيراً: ليس المطلوب الانصهار مع الولايات المتحدة، كما ليس المطلوب معاداتها، وهناك من القيادات في الشرق الأوسط من يتفهم المعادلة، ويبني الجسور من دون انصهار أو تبعية، إلا أنه من الواقع إعادة التفكير في مقولة إن هناك تشكلاً لأقطاب متعددة في العالم، وعلينا أن نتحمس لقطب ضد آخر، ذلك حديث إلى جانب أنه عاطفي، فهو مضرّ للمصالح العليا لدول الشرق الأوسط.

آخر الكلام: المحزن أن (الآيديولوجيات المريضة) ما زالت فاعلة في قسم من عقول النخب في فضائنا العربي من دون تدبر للمفاهيم!