تظل صدقية كثير من شركات الإحصاءات على المحك وتطاولها الاتهامات بالتسييس أو تغيير النتائج والتلاعب بها بهدف الكسب المادي حتى ولو تطابقت بعض نتائجها مع الواقع، مما يثير تساؤلات حول جدوى الاعتماد على الإحصاءات على رغم أهميتها للحكومات ورجال الأعمال والباحثين.
ووفق الباحث في مجال الإحصاء محمود حسن الذي عمل في دائرة الإحصاء الأردنية بعد تخرجه في قسم المحاسبة، فإن نشاط كثير من هذه الشركات يعتمد كاملاً على المال، موضحاً أن "الربح التجاري هاجسها الأول، لذلك لديها أساليب عدة لبرمجة النتائج قبل ظهورها، ويمتلك كثير منها القدرة الكاملة على التلاعب بالنتائج من خلال طرق عدة أبرزها إخفاء النتيجة الحقيقية أو التلاعب بالعينة، أو من خلال التحكم بالـ ’لوغاريتم‘ الذي تسير وفقه عملية تحليل الإحصاءات".
وإذا كان حسن يبدو متشائماً فإن الأكاديمي الأردني محمود العفيف يلتمس له العذر قائلا إن "الحكم على دقة الصورة التي ينقلها حسن هو الواقع الذي يؤكد أن الإحصاءات التي تجرى لا تتطابق نتائجها معه في كثير من الأحيان"، مضيفاً أنه "لو كانت النتائج حقيقية لما كان الواقع رديئاً، وإذا أردنا أن نعرف ما هو واقع هذا التخصص فعلينا أن ننظر إلى تأخرنا تنمويا وسياسياً واقتصادياً مقارنة بالعالم المتقدم الذي تحركه نظرة للمصلحة العامة أكثر منا".
ويوضح العفيف أن "مهمة هذا التخصص هي وضع النتائج أمام صانعي القرار والمعنيين من جميع قطاعات الدولة، لاتخاذ إجراءات ورعاية نشاطات من شأنها تغيير الواقع، وهو ما لا يحدث حتى الآن"، ويختم بالقول إن "هناك فئة من كبار الباحثين والقامات في هذا المجال محلياً وعالمياً تقع على عاتقهم مسؤوليات عظيمة لإنجاح هذا العمل، ومنهم من وضع حياته على المحك ليقدم معلومات ونتائج دقيقة تعكس الواقع وتسهم في تغييره".
ويؤكد حسن أن سويسرا من الدول الرائدة في هذا التخصص خلال الفترة الماضية، قبل أن يترك هذا المجال وينتقل للعمل في مجال التدريس.
فيما أشاد دليل التنظيم الإحصائي للأمم المتحدة عام 2004 في طبعته الثالثة بتجربة كل من ألمانيا وإسبانيا، وصنفها الدليل الذي ينظم تشغيل الوكالات الإحصائية وقتها، من خلال وصفها بأنها تمتلكان نظام إحصاءات لا مركزي يشغل مكاتب إحصاءات مستقلة عدة، تتبع لمكتب أو دائرة مركزية ترتبط بنظام الإحصاءات الدولي بدلاً من الاعتماد على جهة مركزية واحدة، إذ ذكر الدليل أستراليا وكندا والمكسيك مثالاً على النمط الثاني في العمل المركزي الذي يعد أكثر إشكالاً.
وأكد الدليل تفرد الولايات المتحدة الأميركية بنظام إحصاءات يتميز بالاستقلالية والشفافية والكفاءة العالية، وفي هذا الشأن نص الدليل في صفحاته الأولى على أنه "ليس في العالم بلد يعهد إلى مؤسسة وحيدة بمسؤولية جمع كل الإحصاءات، وتوجد النظم الإحصائية في صورة سلسلة متواصلة، ويوجد في الولايات المتحدة عدد كبير من الوكالات الإحصائية".
المرأة باحثة ميدانية
وتقول الباحثة الميدانية سارة التي عملت في بدايات مشاركة المرأة في عمل الإحصاءات ميدانياً في العاصمة الأردنية عمّان، "بعد التخرج في الجامعة توظفت في وزارة التربية والتعليم عام 2000، وفي 2003 أتيحت للمرأة فرصة العمل كباحثة ميدانية في مجال الإحصاءات للمرة الأولى، وكان هذا القطاع قبل ذلك حكراً على الرجال لأسباب أمنية، وجرى تدريبنا على دخول البيوت في الأحياء وحتى في بعض الحارات المكتظة والأزقة لجمع البيانات، وكانت التعليمات تحذر من تناول المشروبات أو تناول الطعام".
وتضيف، "كانت هناك محاذير كثيرة لدرجة أن بعض الباحثات فكرن بحمل أسلحة خفيفة أو عصي، لكننا بعد أيام قليلة من العمل بدأنا نشعر باطمئنان كبير ونتناول المشروبات والطعام أيضاً، ومع ذلك كانت هناك عائلات متحفظة على ذكر كثير من المعلومات، فيما اتهمنا مواطنون أننا نعمل مع أجهزة التحقيق ودوائر الاستخبارات العالمية نتيجة كثرة الأسئلة والتفاصيل التي يتطلبها البحث".
فيما يؤكد المدير العام لدائرة الإحصاءات الأردنية حيدر فريحات أن الدائرة توفر الإحصاءات لصانعي القرار وراسمي السياسات بخاصة ولمستخدمي البيانات من باحثين وأكاديميين ورجال أعمال بعامة، ويفضل بعض رجال الأعمال الأردنيين البحث عن شخصيات تعمل في هذا المجال بشكل مستقل بدلاً من الاعتماد على جهات غير موثوقة أو شركات خاصة هدفها الربح المالي.
ويقول رجل الأعمال الأردني أبو الواثق أيمن المهدي إن النظر إلى الإحصاءات والأبحاث غير المسيسة قبل اختيار السلعة من بديهيات العمل، ويرى أن استشارة أشخاص مشهورين بدقتهم في هذا المجال أفضل من الذهاب إلى الشركات في كثير من الأحيان، مضيفاً "بعد تجربة مريرة أبادر هذه الأيام قبل بدء أي أعمال إلى التواصل مع شخصيات ذات صدقية لم تسيس المهنة، فالإحصاءات الموثوقة هي أساس العمل العالمي اليوم، وهي ضرورة ملحة للاستثمار وتحسين الاقتصاد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نظرة تاريخية
وبعد عام 2000 زادت عوامل انتشار علم الإحصاء، ويقول دليل الأمم المتحدة إن السبب في ذلك هو توفر التجهيزات المادية والمعدات الصناعية اللازمة للعمل بكلفة منخفضة وشيوع الدراية بتشغيلها، إذ سهل التوصل إلى التقنيات الرياضية والإحصائية توفير برامج حاسوبية معبئة مسبقاً لحل مشكلات هذا العمل، وتشير بعض الكتب والموسوعات العلمية إلى أن الحاجة إلى علم الإحصاء المرتبط جذرياً بعلم الرياضيات بدأت قديماً منذ مئات السنين، فكان من العرب المسلمين في هذا المجال الخوارزمي والبيروني وابن سينا.
بينما ظهرت أول حادثة لافتة لأهمية هذا التخصص خلال القرون الوسطى في اسكتلندا عام 1744، بعد أن احتاج رجال دين كنسيون إلى إنشاء صندوق أرامل يؤمن حياة كريمة لأسرهم بعد وفاة الرهبان، واتصلوا بعلماء الرياضيات في جامعة "أدنبرة" ليتنبؤوا لهم بعدد رجال الدين الذين قد يموتون خلال العقد الأول من سنوات إنشاء الصندوق، ووضع علماء الرياضات وقتها بناء على إحصاءات توقعات وصلت دقتها إلى 99 في المئة، ويعد هذا الحدث بداية التوثيق لتحول العالم بكل فئاته نحو تطبيق نظريات علم الرياضيات والإحصاءات في جميع مناحي الحياة، بدلاً من الاعتماد على الخرافات والتنبؤات البدائية غير العلمية.