الإجابة:
فمن المعلوم بالداهة العقلية أن الله تعالى اختصّ أنبياءه بصفات ميّزهم بها على غيرهم من الخلق قبل البعثة، وفضّلهم بصفات بعد البعثة لم تكن موجودة فيهم من قبل، ولا يكاد يشتبه على أحد النبي بالساحر، حتى قال شيخ الإسلام: أن الفرق بين النبيّ والساحر أعظم من الفرق بين الليل والنهار، غير أن الجهمية والأشاعرة -كما في "البيان للباقلاني" - وغيرهما من أهل البدع يجوّزون أن يأتي الساحر بمثل ما جاء به النبي، وأن كلّ ما خُرق لنبيّ من العادات يجوز أن يُخرق لغيره من السحرة والكهان، ولكن الفرق أنّ هذه تقترن بها دعوى النبوّة والتحدّي، وإنّه لا يمكن أحداً أن يعارضها، ولم يذكروا بين المعجزة والسحر فرقاً معقولاً في نفس الأمر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله في كتابه منهاج السنة النبوية (5/437-439): "والله سبحانه قد أخبر أنه يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، والاصطفاء: افتعال من التصفية، كما أن الاختيار: افتعال من الخَيرة، فيختار من يكون مصطفى؛ وقد قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام، 124]، فهو أعلم بمن يجعله رسولاً ممّن لم يجعله رسولاً، ولو كان كلّ الناس يصلح للرسالة لامتنع هذا، وهو عالم بتعيين الرسول، وأنه أحقّ من غيره بالرسالة، كما دلّ القرآن على ذلك ... والله سبحانه إذا اتخذ رسولا فضله بصفات أخرى لم تكن موجودة فيه قبل إرساله، كما كان يظهر لكل من رأى موسى وعيسى ومحمدا من أحوالهم وصفاتهم بعد النبوة. وتلك الصفات غير الوحي الذي ينزل عليهم، فلا يقال: إن النبوة مجرد صفة إضافية كأحكام الأفعال كما تقوله الجهمية". اهـ.
وقال أيضًا "منهاج السنة النبوية" (2/416): " أن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره وفي عقله ودينه، واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته؛ كما قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَتٍ} [الزخرف: 31]". اهـ.
جاء في كتاب "النبوات" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 144-153): "جنس آيات الأنبياء خارجة عن مقدور البشر، بل وعن مقدور جنس الحيوان.
وأمّا خوارق مخالفيهم؛ كالسحرة، والكُهّان؛ فإنّها من جنس أفعال الحيوان؛ من الإنس، وغيره من الحيوان، والجنّ؛ مثل قتل الساحر، وتمريضه لغيره؛ فهذا أمرٌ مقدورٌ، معروفٌ للنّاس بالسّحر، وغير السّحر، وكذلك ركوب المكنسة، أو الخابية، أو غير ذلك؛ حتّى تطير به، وطيرانه في الهواء من بلد إلى بلد:- هذا فعلٌ مقدورٌ للحيوان؛ فإنّ الطير يفعل ذلك، والجنّ تفعل ذلك؛ وقد أخبر الله أنّ العفريت قال لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39] ، وهذا تصرّف في أعراض الحيّ؛ فإنّ الموت، والمرض، والحركة أعراضٌ، والحيوان يقبل في العادة مثل هذه الأعراض، ليس في هذا قلب جنس إلى جنس، ولا في هذا ما يختصّ الربّ بالقدرة عليه، ولا ما يختصّ به الملائكة.
وكذلك إحضار ما يُحضر من طعامٍ، أو نفقة، أو ثياب، أو غير ذلك من الغيب، وهذا إنّما هو نقل مالٍ من مكانٍ إلى مكانٍ، وهذا تفعله الإنس والجنّ، لكن الجنّ تفعله، والنّاس لا يبصرون ذلك، وهذا بخلاف كون الماء القليل نفسه يفيض حتى يصير كثيراً، بأن ينبع من بين الأصابع من غير زيادة يُزادها، فهذا لا يقدر عليه إنسيّ ولا جنّي.
وكذلك الإخبار ببعض الأمور الغائبة، مع الكذب في بعض الأخبار، فهذا تفعله الجن كثيراً مع الكُهّان، وهو معتادٌ لهم، مقدورٌ، بخلاف إخبارهم بما يأكلون، وما يدّخرون، مع تسمية الله على ذلك؛ فهذا لا تظهر عليه الشياطين.
وأيضاً: فخبر المسيح، وغيره من الأنبياء ليس فيه كذب قط، والكهان لا بُدّ لهم من الكذب؛ والربُّ قد أخبر في القرآن أنّ الشياطين تنزل على بعض الناس، فتخبره ببعض الأمور الغائبة، لكن ذكر الفَرْقَ، فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ* تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}[الشعراء: 221 - 223].
وكذلك مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ ليريه الربّ من آياته. فخاصّة الرسول ليست مجرّد قطع هذه المسافة، بل قطعها ليريه الربّ من الآيات الغائبة ما يُخبر به، فهذا لا يقدر عليه الجنّ، وهو نفسه لم يحتجّ بالمسرى على نبوته، بل جعله مما يؤمن به؛ فأخبرهم به ليؤمنوا به.
والمقصود إيمانهم بما أخبرهم من الغيب الذي رآه تلك الليلة، وإلاّ فهم كانوا يعرفون المسجد الأقصى، ولهذا قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60]، قال ابن عباس: هي رؤيا عين، أُريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري ؛. وهذا كما قال في الآية: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم: 13 - 18].
وكذلك ما يُخبر به الرسول من أنباء الغيب؛ قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه رَصَدًا}[الجن: 26، 27] فهذا غيب الربّ الذي اختص به؛ مثل علمه بما سيكون من تفصيل الأمور الكبار على وجه الصدق، فإنّ هذا لا يقدر عليه إلا الله.
والجنّ غايتها أن تخبر ببعض الأمور المستقبلة؛ كالذي يسترقه الجن من السماء، مع ما في الجنّ من الكذب، فلا بُدّ لهم من الكذب، والذي يخبرون به هو ممّا يُعلم بالمنامات وغير المنامات، فهو من جنس المعتاد للناس.
وأما ما يخبر الرسل من الأمور البعيدة الكبيرة مفصلاً؛ مثل إخباره: "إنكم تقاتلون الترك، صغار الأعين، ذُلْفُ الآنُفِ، ينتعلون الشعر، كأنّ وجوههم المَجَانُّ المُطْرَقَة"، وقوله: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تُضيء لها أعناق الإبل ببُصرى"، ونحو ذلك. فهذا لا يقدر عليه جني، ولا إنسيّ.
والمقصود: أنّ ما يُخبر به غير النبي من الغيب معتادٌ، معروفٌ نظيره من الجن والإنس، فهو من غيب الله الذي قال فيه: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27].
والآيات الخارقة جنسان: جنسٌ في نوع العلم، وجنسٌ في نوع القدرة، فما اختصّ به النبيّ من العلم خارجٌ عن قدرة الإنس والجنّ، وما اختصّ به من المقدورات خارجٌ عن قدرة الإنس والجنّ... إلى أن قال: فينبغي أن يُتدبّر هذا الموضع، وتُعرف الفروق الكثيرة بين آيات الأنبياء، وبين ما يشتبه بها؛ كما يُعرف الفرق بين النبي، وبين المتنبي؛ وبين ما يجيء به النبي، وما يجيء به المتنبي؛ فالفرق حاصلٌ في نفس صفات هذا، وصفات هذا، وأفعال هذا، وأفعال هذا، وأمر هذا، وأمر هذا، وخبر هذا، وخبر هذا، وآيات هذا، وآيات هذا؛ إذ الناس محتاجون إلى هذا الفرقان أعظم من حاجتهم إلى غيره، والله تعالى يبيّنه، ويُيسّره؛ ولهذا أخبر أنه أرسل رسله بالآيات البيّنات، وكيف يشبّه خير الناس بشر الناس؛ ولهذا لما مثّلوا الرسول بالساحر، وغيره، قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيل} [الإسراء: 48].
إذا تقرر هذا تبين لك أنّ آية النبوة مختص بها، لا يعقل أن تكون مشتركة بين الأنبياء وغيرهم من السحرة؛ وإن كان منها ما هو معتاد لكثيرٍ من الأنبياء، وأعظم آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو القرآن العظيم الذي تحدي الله به الخلق أن يأتوا بسورة مثله ولازال التحدي قائمًا.
جاء في "النبوات" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 164): "فآية النبيّ لا بُدّ أن تكون خارقةً للعادة؛ بمعنى أنّها ليست معتادة للآدميين؛ وذلك لأنها حينئذ لا تكون مختصة بالنبي بل مشتركة؛ وبهذا احتجوا على أنّه لابدّ أن تكون خارقة للعادة، لكن ليس في هذا ما يدلّ على أنّ كل خارق آية؛ فالكهانة والسحر هو معتاد للسحرة والكهان، وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم؛ كما أنّ ما يعرفه أهل الطب، والنجوم، والفقه، والنحو، هو معتادٌ لنظرائهم، وهو خارقٌ بالنسبة إلى غيرهم؛ ولهذا إذا أخبر الحاسب بوقت الكسوف والخسوف، تعجب الناس إذ كانوا لا يعرفون طريقه؛ فليس في هذا ما يختص بالنبيّ، وكذلك قراءة القرآن بعد أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم صارت مشتركة بين النبيّ وغيره، وأما نفس الابتداء به فهو المختص بالنبيّ؛ والله تعالى قد ذكر الفرق بينهم وبين الأنبياء؛ فقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ* تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}[الشعراء: 221 - 223]، فهؤلاء لا بُدّ أن يكون في أحدهم كذب وفجور، وذلك يُناقِض النبوّة، فمن ادّعى النبوّة، وأخبر بغيوبٍ من جنس أخبار الكهّان، كان ما أخبر به خرقاً للعادة عند أولئك القوم، لكن ليس خرقاً لعادة جنسه من الكهّان.
وهم إذا جعلوا ذلك -خوارق بعض المتنبئين-آية لنبوته، كان ذلك لجهلهم بوجود هذا الجنس لغير الأنبياء؛ كالذين صدّقوا مسيلمة الكذّاب، والأسود العنسي، والحارث الدمشقي، وبابا الرومي، وغير هؤلاء من المتنبئين الكذّابين؛ وكان هؤلاء يأتون بأمور عجيبة خارقة لعادة أولئك القوم، لكن ليست خارقة لعادة جنسهم ممن ليس بنبي، فمن صدقهم ظنّ أنّ هذا مختصٌ بالأنبياء ، وكان من جهله بوجود هذا لغير الأنبياء، كما أنهم كانوا يأتون بأمور تناقض النبوة؛ ولهذا يجب في آيات الأنبياء أن لا يُعارضها من ليس بنبي، فكل ما عارضها صادراً مّن ليس من جنس الأنبياء، فليس من آياتهم.
ولهذا طلب فرعون أن يُعارَض ما جاء به موسى لمّا ادعى أنّه ساحر؛ فجمع السحرة ليفعلوا مثل ما يفعل موسى، فلا تبقى حجته مختصة بالنبوة، وأمر موسى أن يأتوا أولاً بخوارقهم، فلمّا أتت، وابتلعتها العصا التي صارت حية، علم السحرة أنّ هذا ليس من جنس مقدورهم، فآمنوا إيماناً جازماً.
ولما قال لهم فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى* قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا}[طه: 71، 72]، وقالوا: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121، 122] فكان من تمام علمهم بالسحر: أنّ السحر معتادٌ لأمثالهم، وأنّ هذا ليس من هذا الجنس، بل هذا مختص بمثل هذا؛ فدلّ على صدق دعواه". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.