كلما زاد انتشار التطبيقات الثورية الحديثة للتكنولوجيا زادت آثارها وتوسعت لتشمل مجالات أكبر، وزادت معها الهواجس المتعلقة بالجوانب الأخلاقية، بخاصة حقوق الملكية الفكرية التي تعد واحدة من القضايا الأكثر إشكالية، لا سيما بعدما سرحت شركة "مايكروسوفت" أخيراً فريق الأخلاقيات في الذكاء الاصطناعي لكي لا يحد من تطور برامجها.
في أوائل التسعينيات أقرت "يونسكو" (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) بأن حقوق المؤلفين والفنانين باتت عرضة للخطر بسبب انتشار القرصنة، لكن مع انتشار ثقافة الذكاء الاصطناعي أصبحت للقضية أبعاد أخرى أكثر تعقيداً، لقد دخلنا حقبة النماذج اللغوية التي تعطيك مخرجات مهولة، من دون علامة تشير إلى مرجع المنتج. إذاً هل نحن أمام عملية استلاب واختلاس ذكي للحقوق؟
حفظ الحقوق
تحمي حقوق الطبع والنشر عمل منشئ المحتوى الأصلي وتعد عملية شائعة تمنع الأطراف الأخرى من نسخ أو استخدام العمل الإبداعي من دون إذن مالك حقوق الطبع والنشر في أوساط الأدب والدراما والموسيقى والفن والهندسة المعمارية وأكواد الكمبيوتر، فالحصول على حقوق التأليف والنشر يحفظ حقوق "المؤلفين" في أعمالهم الإبداعية الأصلية، متضمنة الرسومات المعمارية والمخططات التصميمية ليملك مؤلف العمل المحمي بحقوق الطبع والنشر، الحق الحصري في إعادة إنتاج (طباعة أو نسخ) المحتوى الإبداعي.
وتعمل منظمات عدة كطرف ثالث أو مساعد في تحديد ما إذا كان جزء ما بالصورة في نطاق الملكية العامة، فعلى سبيل المثال تقدم مؤسسة "المشاع الإبداعي" Creative Commons (CC) خدمات تهدف إلى إتاحة بيانات للعامة يمكن لأي شخص استخدامها وتصدر رخصاً عدة للملكية الفكرية تعرف باسم "رخص المشاع الإبداعي".
العلامة التجارية
في السياق ذاته، يجب في أحيان كثيرة حماية العلامة التجارية (رمز أو كلمة أو شعار أو لون يحدد مصدر المنتج أو الخدمة) في حال استخدام الصور لتحديد مصدر منتج أو خدمة معينة، كما يوفر تسجيل العلامة التجارية مزايا قانونية للمؤلف مثل فرض حقوق الطبع والنشر ضد المخالفين في المحكمة، وفي حين تحمي تلك الحقوق العمل الأصلي، فإن العلامة التجارية تحمي العناصر التي تميز أو تحدد نشاطاً تجارياً معيناً عن آخر.
وتختلف قوانين العلامات التجارية من بلد إلى آخر، على سبيل المثال، تسمح بعض البلدان بعدم ذكر أسماء المعماريين في العمل المعدل، بما في ذلك المخططات والرسومات، بينما في أوروبا مثلاً، يشمل الحق في العمل الفني حمايته من أي تعديل غير مصرح به للمواد المتضمنة أو الإضرار بسمعة المؤلف.
في سياق آخر، سجلت صورة "قاعة استماع تنريف" Auditorio de Tenerife في إسبانيا، واحدة من أهم المعالم الأثرية في العمارة المعاصرة كعلامة تجارية، ولم توضع أي قيود على التقاط الصور لها من قبل السياح، في حين تفرض على التقاط الصور حول معالم ثقافية أخرى رسوم في حال تم استخدامها ضمن الأعمال التجارية كالأفلام والأعمال التصويرية.
توليد الصور
ويتزايد اليوم الاتجاه نحو ضمان حقوق الملكية الفكرية من علامات تجارية وحقوق وبراءات وابتكارات، لكن يبدو أنه سيصبح أكثر صعوبة وتعقيداً في ظل التكنولوجيا العالمية، إذ يستخدم كل من "ميدجورني" Midjourney و"دال-إي" DALL-E، وهما مولدا الصور الرئيسان اللذان يعملان بالذكاء الاصطناعي، نظاماً مدرباً على مجموعات البيانات العامة لإنتاج العناصر المرئية وملحقاتها، وربما تكون هذه العناصر مشابهة من دون قصد للمواد المحمية بحقوق الطبع والنشر أو العلامات التجارية، ومع ذلك يظل لكل منهما نهج مختلف في ما يتعلق بحماية الملكية الفكرية.
فعملية توليد الصور تتم عبر سلسلة من الخطوات تبدأ باختيار بيانات تحتوي على أعمال محددة لتبني من الخوارزميات من خلالها نماذج تميز بين الأشكال والأنماط المختلفة، ثم يبدأ تدريب الخوارزميات لتغذي شبكاتها عليها، بعدها تصبح قادرة على توليد أعمال فنية "جديدة" من خلال مدخلات محددة أو عشوائية، ثم تنقح الصور المستخرجة لتخرج بحالها النهائية بشكل يفوق الأعمال الأصلية جمالاً وإبهاراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعبارة أخرى، يحاكي الذكاء الاصطناعي صوراً مستوحاة من الفنون التي ينتجها الإنسان بعد التدريب المكثف عليها، وينتج مخرجات تكاد تكون متطابقة مع مصادر معينة محمية بحقوق الطبع والنشر، الأمر الذي يمكن اعتباره ببساطة "سرقة أدبية"، إضافة إلى سهولة الوصول إلى بيانات ومحتوى المستخدمين أنفسهم والاعتماد عليه في النتائج، وهنا أشارت شركة "أدوبي" Adobe إلى أنها ستضيف لبرامجها خاصية Do Not Train أي منع استخدام محتوى معين من قبل البرنامج في عمليات التدريب.
حتى إن كبرى الوكالات مثل "غيتي" Getty Image و"شاترستوك" Shutterstock تواجه مشكلة ذات اتجاهين، الأول يتعلق بالوضع القانوني للصور المنتجة من قبل الذكاء الاصطناعي وحقوق ملكيتها والثاني بفتح المجال للذكاء الاصطناعي نفسه لاستباحة بياناتها وصورها المحمية ليتدرب عليها.
العمارة وإشكالية الحقوق
أشعلت نماذج الذكاء الاصطناعي النقاش حول الملكية الفكرية اليوم أكثر من أي وقت مضى، إذ يولد الملايين حول العالم كميات ضخمة من الأعمال الرسومية مبتكرة عبر إدخال كلمات مفتاحية رئيسة، الأمر الذي أثار حفيظة المعماريين لحماية أعمالهم الإبداعية في ما يتعلق بالملكية الفكرية وحماية الأعمال من استباحة أدوات الذكاء الاصطناعي للبيانات، فالعمارة اعتبرت عبر تاريخها الطويل تخصصاً مرجعياً، فبدءاً من أول ابتكار معماري حتى أحدثه، من الصعب معرفة إذا ما كانت الأفكار التي تجسدت على الأرض جديدة حقاً أم تم تصورها من قبل.
واليوم تؤدي التكنولوجيا أكثر من أي وقت مضى مهمات إبداعية تحث المصممين على استكشاف الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر، لكن في حالة الهندسة المعمارية حيث تعد الإحالة والاستدعاء جزءاً من العملية، تظل حقوق النشر مفتوحة للتأويل مع الأخذ في الاعتبار ما إذا كان من الجيد حماية العمارة ضمن فئتها الخاصة، لذا يطرح بعض المتخصصين فصل الهندسة المعمارية عن الأعمال الفنية والرسومية، الأمر الذي يفضي إلى تطوير فرع آخر ضمن التخصص ذاته يمكن أن يكرس قوانين حقوق الملكية في عصر الإلهام والانتحال والسرقة.
الحق التجاري
وكانت منظمة "ويبو" (المنظمة العالمية للملكية الفكرية) أكدت في تصريحاتها وأبحاثها الصادرة عام 2020، مدى التأثير الذي سيتركه الذكاء الاصطناعي في قوانين الملكية الفكرية التي ظلت لعقود محصورة باتفاق "برن"، بالتالي تغيير المفاهيم التقليدية لحقوق الأعمال الفنية والأدبية والإنتاجات العلمية، لذا أصبح من الأكيد أن تحديد نطاق ما هو محمي سيساعد بدوره في تحديد ما إذا كانت التراخيص كافية لحماية العمل الإبداعي الذي يندرج تحتها وإذا ما كانت عملية تسجيل العلامات التجارية ما زالت تستحق كل العناء المرافق.
لكن حتى اليوم، تعد منتجات الذكاء الاصطناعي ملكية للمستخدم ذاته الذي لا يتطلب منه سوى الإشارة إلى البرنامج الذي تم الاعتماد عليه، فقد صرحت "أوبن آي" بأن حقوق الملكية الفكرية لمخرجات نماذجها اللغوية ستكون ملكاً للمستخدم وبمجرد إدخاله بعض العبارات المفتاحية ليحولها البرنامج إلى صور فنية، يمكنه أن يذهب ويتغنى بها كإنتاج إبداعي خاص.
وهنا ظهر بعضهم مطالباً بتصنيف هذا السلوك ضمن عمليات التزييف، بخاصة أن المستخدم يتقصد في أحيان كثيرة إدخال عبارات وجمل تقود البرنامج إلى تقليد شبه متطابق لنوعية محتوى معين، لكن الحقيقة أنه طالما لم يحدد البرنامج المصدر الذي استقى منه التصميم تبقى مطالبات استعادة الحقوق مضيعة للوقت "حتى الآن"، حتى يستجد أمر ما، ربما برمجية يمكنها تحديد المصادر التي تم مسحها من قبل البرنامج عند توليد الصور.
لكن السؤال الإشكالي الأهم هنا، هل يمكن اعتبار هذا المنتج فناً؟
يرى كثيرون أن الفن هو ميزة يختص بها البشر دون سواهم، بالتالي لا يمكن إطلاق مصطلح الفن على عمل غير بشري، إذ يتطلب الفن حساً ونية بشرية تعطي الفن قيمته ومعناه، بينما يقارنه آخرون بتسمية أنماط فنية بسيطة "فناً"، على رغم اعتمادها على عناصر بدائية بسيطة وألوان أولية، من جهة ثانية يطرح آخرون رأياً غريباً ومستهجناً بعض الشيء بوجوب إضافة فن مستقل يختص بالذكاء الاصطناعي في حال نسب المنتج إليه.
المحمي وغير المحمي
إذاً، في عصر الذكاء الاصطناعي يكاد يكون من المستحيل الحفاظ على حقوق المبدعين، فاطلاع الخوارزميات على البيانات المتاحة والاستقاء منها لتشكيل منتج جديد أشبه بعملية اختلاس خفية متنوعة ومعقدة، العملية معروفة لكن لا أحد يدري بالضبط أين تمت وعلى ماذا، بمعنى أي البيانات تم الاطلاع عليها والاستقاء منها.
الأكيد أنه لا يمكن لأحد أن يحفظ حقوق النشر لرسم يحتوي على فكرة سطوح خضراء مثلاً، في حال تم أمر كهذا، سيصبح لمعماري واحد فقط الحق في رسم مبان بسطوح خضراء، إذ سيتم حظر الكلمات المتعلقة بها على منصات الذكاء الاصطناعي لأسباب قانونية.
من جهة أخرى يمكن أيضاً الحصول على تراخيص قانونية للصور، بما فيها المنتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي، إذ يمنح الترخيص الشخص أو الكيان المرخص له إذناً من مالك الحقوق لاستخدام العمل مقابل مبلغ مالي باستثناء الصور التي تحتوي على جوانب تنتمي إلى الملكية العامة مثل الأنماط والتصاوير المعمارية والفنية والعناصر القياسية مثل الأبواب والمواد والبنى والهياكل.